مقدمة حول الخبرة
ازدادات أهمية الخبرة في العصر الحاضر نتيجة لتقدم العلوم وتشعبها.
وقد انعكس ذلك على العلوم الجنائية وما يتصل بها. فعند وقوع جريمة، لابد من الكشف عن أدلتها المادية التي تساعد على كشف حقيقة الجريمة ومعرفة مرتكبيها وكيفية ارتكابها.
لذلك لابد من فحص هذه الأدلة المادية لبيان مدى قيمتها في إثبات الجريمة أو نفيها. وكثيراً ما يتطلب فحص هذه الأدلة المادية وتقويمها معرفة عالية وخبرة فنية لا يملك مثلها القاضي، مما يضطره إلى الاستعانة بشخص اختصاصي أو فني لبيان حقيقتها .
فموضوع الخبرة يتضمن إبداء رأي علمي أو فني من شخص صاحب اختصاص في شأن واقعة لها أهمية في الدعوى الجزائية، فلا يستطيع القاضي البت فيها لأنه لا يتوافر لديه مثل هذا الاختصاص، كفحص الحالة العقلية للمتهم لتقدير أهليته الجزائية، أو فحص الجثة لتعيين سبب الوفاة، أو فحص الخطوط في جريمة التزوير.
ولم يشر المشرع إلى أحكام خاصة تتعلق بأصول الخبرة أمام القضاء الجزائی، فوردت بعض الأحكام المتفرقة في قانون أصول المحاكمات الجزائية في المواد 39 و 40و41، في معرض حديثه عن وظائف النيابة العامة في حالات الجرم المشهود.
وهذا يدل على عدم رغبة المشرع واضع القانون في تقييد القضاة الجزائيين بأمور شكلية ما دام أمر الثبوت وعدمه في الأصل متروكة لضمائرهم وقناعتهم.
أ- اللجوء إلى الخبرة
السؤال الذي لابد من طرحه هو هل القاضي ملزم بالاستعانة بالخبرة؟.
الأصل في هذه المسألة أن الأمر جوازي بالنسبة إلى قاضي الموضوع، فهو الذي له سلطة تقديرية في أن ينتدب خبيراً أو لا، كما له أن يرفض طلب انتداب خبير خاصة عندما يتعلق الأمر بوصف أمور واضحة فيقرر بنفسه الحقيقة التي يقتنع بها من المشاهدات والأدلة الأخرى.
فهو الخبير الأعلى في كل ما يستطيع أن يفصل فيه بنفسه، ولهذا فهو غير ملزم بانتداب خبير في الدعوى ما دامت الواقعة قد وضحت لديه، وما دامت ظروف الحادثة أو أوراق الدعوى تشير بذاتها إلى الرأي الواجب الأخذ به أو كان الأمر المطلوب تحقيقه غير منتج في الدعوى ويكون فصله في ذلك فصلاً في أمر موضوعي لا إشراف لمحكمة النقض عليه. وإذا رفض طلب اللجوء إلى الخبرة، لابد من أن يكون رفضه معللاً.
فالاستعانة بالخبراء أمر متروك السلطة القاضي التقديرية التي لا تقع تحت رقابة محكمة النقض.
أما إذا كان الأمر يتعلق بمسألة فنية بحتة، فإن القاضي يصبح ملزمة باللجوء إلى الخبرة. وقد حكمت محكمة النقض :
(بأنه ليس للمحكمة أن تفصل في أمور فنية وعلمية لا يستوي في معرفتها ذوو الاختصاص مع غيرهم بل عليها أن تستعين بالخبراء في كل علم لتحقيق ما هو داخل ضمن خبرتهم).
واللجوء إلى الخبرة جائز في كل مراحل الدعوى ، فيحق لموظفي الضابطة العدلية الاستعانة بالخبرة عند قيامهم بوظائفهم في التحقيق الأولي، وكذلك في التحقيق الابتدائي. كما إن للمحكمة أن تستعين بالخبرة في مرحلة المحاكمة.
ب – موضوع الخبرة
الخبرة في حقيقتها هي شهادة من الخبير في أمور تحصلت له معرفتها عن طريق علمه أو فنه أو صنعته أو تجربته.
والخبرة في القضايا الجزائية كثيرة ومعقدة ويدخل ضمنها: تشريح جثث المتوفين لتحديد سبب الوفاة، وتحليل السموم، و بيان الجروح والرضوض والكدمات الموجودة على أجسام الأشخاص وتقدير أعمارهم، والكشف عن التزوير والتزييف، وأخذ صور البصمات التي تركها الجناة في مكان الحادث، وتصوير مكان الحادث وتنظيم مخطط له، وأخذ صور للمتهمين وبصماتهم بقصد معرفة هوياتهم، وتحليل المواد المخدرة والآثار والبقع التي تركها الجناة في موقع الحادث، والكشف عن الأسلحة النارية..الخ .
ج- تقدير قيمة الخبرة
عندما يقدم الخبير تقريره فيما يطلب منه إبداء الرأي فيه فإنه يصبح من بين الأدلة المطروحة للمناقشة أمام المحكمة، ويكون محط لتقديرها .
فتقدير التقرير يخضع للسلطة التقديرية للقاضي حسب مبدأ القناعة الشخصية.
كما يعود إلى تقدير المحكمة وقناعتها أن تطرح من هذا التقرير ما لا تطمئن إلى صحته، كما لها أن تأخذ بما يرتاح إليه ضميرها واعتمدت عليه في قناعتها، على أن تعلل قرارها في ذلك تعليلاً سائغاً.
فتقرير الخبير غير ملزم للمحكمة بل هو من جملة الأدلة المعروضة لديها تابع للمناقشة والتمحيص، غير أن عدم الأخذ به أي رفضه يجب أن يستند إلى دليل أقوى منه، مع بيان أسباب رفضه .
والمحكمة لا تأخذ إلا بالخبرة القضائية التي تمت تحت إشراف القاضي أو من ينتدبه من القضاة بعد أداء الخبير اليمين القانونية.
وعندما تتعلق الخبرة بأمر فني لا تستطيع المحكمة تقديره بنفسها عليها أن تستند في هذا الرفض إلى خبرة فنية تنفي ما جاء في الخبرة الأولى حتى يتسنى لها أن ترجع إلى إحدى الخبرتين.
وعلى الرغم من السلطات التقديرية المخولة للقاضي الجزائي للأخذ بالتقرير أو رفضه، فإن حكمه يجب أن يعتمد على العلم والمنطق لتقدير قيمة تقرير الخبرة ولكي ينسجم مع الأدلة الأخرى المتوافرة في الدعوى.
ولابد من أن يكون تقرير الخبير موضع ثقة عند القاضي الجزائي لأن هذا الأخير هو الذي عينه وراقبه في مهمته، ويرد في الأساس على مسائل فنية وعلمية ليست من مجال اختصاصه.
ومهما يكن من أمر، فإن سلطته التقديرية ليست تحكمية وتخضع للأسس المنطقية التي تعين على التوصل إلى حكم عادل في موضوع الدعوى.