لا تقف الصعوبات التي تواجه الدليل الرقمي عند حد كيفية الحصول عليه وإجراءات حفظه، بل تمتد إلى مدى القوة الثبوتية التي يتمتع بها هذا الدليل، ومدى حرية قاضي الموضوع بالاقتناع به لبناء الحكم على أساسه بالبراءة أو الإدانة.
لذلك حاول المشرع والقضاء والفقه المقارن التصدي لهذه المسألة، وذلك بتحديد الشروط التي يجب توفرها في الدليل الرقمي أو في مخرجات الحاسوب حتى يمكن قبوله من قبل القاضي الجزائي.
وبناء على ما تقدم، سنتناول حجية الدليل الرقمي في الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا وفرنسا، والمنظمة الدولية لدليل الحاسوب.
أولاً- الولايات المتحدة الأمريكية:
تبتی قانون الإثبات الفيدرالي في المادة /1002/ منه قاعدة الدليل الأفضل، ويقصد بهذه القاعدة أنه عند إثبات مضمون كتابات أو سجلات أو صور، فإن أصل هذه الكتابات أو السجلات أو الصور يجب أن يكون متوفرة، أي يجب تقديمه إلى المحكمة.
وقاعدة الدليل الأفضل التي تعبر عن أصالة الدليل تقف حائلا أمام الدليل الرقمي، لأن ما يتم تقديمه إلى المحكمة ليس الملفات الإلكترونية المخزنة في الحاسوب، وإنما نسخ عن هذه الملفات. ولذلك فقد حسم المشرع الأمريكي هذه المسألة لصالح الدليل الرقمي في المادة 1001/3 من قانون الإثبات الأمريكي والتي نصت على ما يلي:
(إذا كانت البيانات مخزنة في حاسوب أو آلة مشابهة، فإن أي مخرجات مطبوعة منها أو مخرجات يمكن قراءتها بالنظر إليها وتعكس دقة البيانات، تعد بيانات أصلية) .
يتضمن هذا القانون القواعد المقبولة في الإثبات أمام المحاكم الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أن محاكم الولايات تتبع قواعدها الخاصة مثل “كاليفورنيا” و”واشنطن”.
وقد وضع هذا القانون بناء على اقتراح المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية أول مرة عام 1975، وجرى تعديله عدة مرات، وهو متوفر على الإنترنت مع تعديلاته حتى 2008/12/1.
ووفقا لهذه المادة، فإن البيانات أو المعلومات التي تم الحصول عليها من الإنترنت، والتي تم استخراجها بواسطة الطابعة، تعد دليلاً أصليلاً كاملاً، ولا حاجة لجلب الحاسوب إلى قاعة المحكمة.
أما فيما يخص القوة الإثباتية للسجلات الإلكترونية، فإن المرشد الفيدرالي الأمريكي لتفتيش وضبط الحواسيب الصادر في عام 2002 يميز بين نوعين من السجلات، وهما:
النوع الأول – السجلات المخزنة في الحاسوب:
وهي الوثائق الإلكترونية التي تحتوي على كتابات عائدة لشخص ما، ومن أمثلتها رسائل البريد الإلكتروني، وملفات الورد Word، ورسائل غرف الدردشة على الإنترنت.
وهذه الوثائق تتضمن إفادات بشرية، وتعد كالشهادة على السماع في مجال الإثبات .
النوع الثاني – السجلات المأخوذة من الحاسوب:
وهي عبارة عن نتائج برامج الحاسوب التي لا تمسها الأيدي البشرية، ومن أمثلتها سجلات الدخول إلى الإنترنت، وسجلات الهاتف، وإيصالات الصراف الآلي وغيرها.
فهذه السجلات لا تتضمن إفادات بشرية، وإنما هي عبارة عن نتائج البرامج الحاسوبية.
فالصراف الآلي مثلاً يمكن أن يعطي إيصالا يتضمن أن /100/ دولار أمريكي قد تم إيداعها في الحساب عند الساعة 2.25 مساء، وهذا النوع من السجلات يمكن للمحاكم أن تأخذ به، إذا كان برنامج الحاسوب يؤدي عمله على نحو جيد وسليم.
وبناء على هذه القواعد، فإن الفقه في أمريكا يرى بأنه حتى يكون الدليل الرقمي مقبوة أمام المحكمة، يجب أن يتوفر فيه الشروط التالية :
- أن لا يطرأ على محتويات السجل الإلكتروني أي تغيير، أي أن يكون الدليل المقدم إلى المحكمة هو نفس الدليل الذي تم جمعه، ويمكن للشخص الذي قام بجمع الدليل أن يشهد بذلك أمام المحكمة، وهذا ما يطلق عليه مفهوم سلسلة الرعاية” Chain of Custody، ويقصد بذلك أن الدليل الرقمي منذ لحظة جمعه وحتى لحظة تقديمه إلى المحكمة لم يطرأ عليه أي تغيير، ولا يوجد أي احتمال اللعبث به، وأنه تمت مراعاة سلامته حتى يبقى بنفس الحالة التي وجد عليها .
- أن تكون المعلومات الموجودة في السجل، قد صدرت فعلا عن المصدر المزعوم، سواء كان هذا المصدر الإنسان أم الآلة.
- أن تكون المعلومات الموجودة في السجل، والمتعلقة بالوقت والتاريخ، معلومات دقيقة.
أما القضاء الأمريكي فقد تعرض في العديد من القضايا إلى مسألتي الأصالة والصحة.
ففي إحدى القضايا، قررت المحكمة: “إن عضو مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الذي كان حاضراً عندما تم ضبط الحاسوب الخاص بالمتهم، يمكن أن يقرر صحة الملفات المضبوطة. .
وفي قضية أخرى قبلت المحكمة سجلات الهاتف بعد أن أكدت موظفة الفواتير في الشركة أصالة هذه السجلات .
كما قبلت إحدى المحاكم الدليل الرقمي رغم الدفوع المتعلقة بالعبث بهذا الدليل، لأن هذه الدفوع جاءت على شكل تخمين، دون أن يوجد أي دليل يدعمها .
وفي إحدى القضايا قررت المحكمة: “إن حقيقة وجود احتمال بتعديل البيانات الموجودة في الحاسوب غير كافية للقول بعدم جدارة الدليل.
” كما ذكرت وزارة العدل الأمريكية في المرشد الفيدرالي لتفتيش وضبط الحواسيب، وصولا إلى الدليل الإلكتروني في التحقيقات الجنائية: “إن غياب دليل واضح على حدوث العبث في الدليل، لا يؤثر على أصالة ودقة سجلات الحاسوب .
ثانيا – إنكلترا:
في عام 1948 صدر في إنكلترا قانون الشرطة والإثبات الجنائي (Pace).
وقد حدد هذا القانون الصلاحيات الشرطة إنكلترا” و “ويلز”، وهو قانون يهدف إلى إقامة التوازن بين قوى الشرطة البريطانية وحقوق الأفراد، ويتناول الية تفتيش الأماكن، وكيفية معاملة المشتبه بهم، والاعتقال وغير ذلك.
وقد تم تعديل هذا القانون في 14 تشرين الأول عام 2002.
كما ركز هذا القانون بصفة أساسية على قبول مخرجات الحاسوب كدليل في الإثبات، حيث حدد المشرع الإنكليزي في المادة 69 من هذا القانون الشروط الواجب توفرها في المستند الناتج عن الحاسوب، حتى قبل كدليل في الإثبات. وهذه الشروط هي:
- عدم وجود أسس معقولة للاعتقاد بأن البيان يفقد الدقة بسبب الاستخدام غير المناسب أو الخاطئ للحاسوب.
- أن الحاسوب كان يعمل في جميع الأحوال بصورة سليمة، وإذا لم يكن كذلك، فإن أي جزء لم يكن يعمل فيه بصورة سليمة، أو كان معط” عن العمل، لم يكن ليؤثر في إخراج المستند أو دقة محتوياته.
وقد علق مجلس اللوردات على المادة 69 المشار إليها، بأنه: “يمكن للشهادة الشخصية الصادرة عن شخص على علم بطريقة تشغيل الحاسوب، أن تعطي الثقة بالدليل، وليس بالضروري أن يكون هذا الشخص خبيرة بالحاسوب .
وبناء على ذلك قبلت المحاكم الإنكليزية فيما يتعلق بسلامة نظام الحاسوب بشهادة أشخاص لديهم علم بطريقة عمل نظام الحاسوب .
ثالثاً- فرنسا:
يتناول الفقه في فرنسا حجية مخرجات الحاسوب في المواد الجنائية، في إطار مسألة أوسع وأعم، هي مسألة قبول الأدلة الناشئة عن الآلة أو الأدلة العلمية، مثل الرادارات، وأجهزة التصوير، وأشرطةالتسجيل، وأجهزة التنصت.
أما القضاء فقد قبل هذه الأدلة إذا توفرت فيها مجموعة من الشروط، من أهمها أن يتم الحصول عليها بطريقة شرعية ونزيهة، وأن يتم مناقشتها حضورياً من قبل الأطراف.
وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن أشرطة التسجيل الممغنطة، التي يكون لها قيمة دلائل الإثبات، يمكن أن تكون صالحة للتقديم أمام القضاء الجنائي .
أما بالنسبة إلى قناعة القاضي الجزائي، فإن الأدلة الإلكترونية تخضع لحرية القاضي في الاقتناع الذاتي، بحيث يمكن أن يطرح مثل هذه الأدلة – رغم قطعيتها من الناحية العلمية – عندما يجد أن الدليل الإلكتروني لا يتسق منطقية مع ظروف الواقعة وملابساتها
رابعاً – المنظمة الدولية لدليل الحاسوب:
تأسست المنظمة الدولية لدليل الحاسوب IOCE في عام 1995، وتتكون من الجهات الحكومية المسؤولة عن تطبيق القانون، أو من الهيئات الحكومية التي تزاول التحقيق في مجال الحاسوب. وتهدف هذه المنظمة إلى تزويد الجهات الدولية القانونية بكيفية تبادل المعلومات بتحقيقات جرائم الحاسوب والمسائل ذات الصلة بالمعلوماتية الشرعية.
كما تقوم بتنظيم عملية الاتصال بين أعضائها، وتقدم التوصيات اللازمة في هذا المجال، وتقيم المؤتمرات المتعلقة بنشاطاتها.
وإضافة إلى ذلك فإن المنظمة وضعت المعايير المطلوبة في دليل الحاسوب، وقد تمت المصادقة على هذه المعايير خلال المؤتمر الدولي للبحث المعلوماتي والجريمة التقنية، المنعقد في تشرين الأول عام 1999 (IHCFC)(37)، وهذه المعايير هي :
- عدم تغير الدليل أثناء ضبطه.
- أن تتم عملية الضبط من قبل شخص مؤهل في المعلوماتية الشرعية.
- جميع النشاطات المتعلقة بالضبط والوصول والتخزين ونقل الدليل الرقمي، يجب أن تكون موثقة ومحفوظة بغرض التدقيق.
- أن يكون الشخص الذي بحوزته الدليل الرقمي مسؤولا عن جميع الإجراءات المتعلقة بهذا الدليل.
- أن تكون الجهات المسؤولة عن ضبط وتخزين ونقل الدليل الرقمي والوصول إليه مسؤولة عن تطبيق هذه المبادئ.