درء المفاسد أولى من جلب المصالح
إن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» ؛
لأن ترك المنهي عنه مقدور عليه مطلقاً كونه عمل سلبي يستطيعه كل مكلف، أما فعل المأمور به فهو غير مقدور إلا للقادر عليه، ولا يعتبر القادر عليه قادراً عند مخالفته للنهي بل يعتبر عاجزاً عنه حكماً فلا يكلف به فيجب تركه .
ثم إن للمفاسد سرياناً وتوسعاً كالوباء والحريق، فمن الحكمة والحزم القضاء عليها من مهدها، ولو ترتب على ذلك حرمان من منافع أو تأخير لها، ومن ثُمَّ كان حرص الشارع على منع المنهيات أقوى من حرصه على تحقيق المأمورات، وهذه القاعدة هي غاية ما وصل إليه التفكير القانوني الحديث في نظرية منع التعسف في استعمال الحق.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان الضرر من المصلحة المتروكة أكبر من الضرر من فعل المفسدة، كإباحة الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فإن الضرر من ترك الإصلاح بين الناس أكبر من ضرر الكذب فيجوز التكلم بالكذب وهو مفسدة على قدر الحاجة إليه .
والظاهر أن تقديم المنفعة ومراعاتها حين تربو على المفسدة يكون إذا كانت المفسدة عائدة على نفس الفاعل كمسألة تجويز الكذب المذكورة، أما إذا كانت المفسدة عائدة لغير الفاعل كأن يتصرف صاحب العلو وصاحب السفل تصرفاً مضراً بالآخر وإن كان فيه منفعة كبيرة، فإنه يُمنع من هذه التصرفات لمجرد وجود الضرر للغير، وإن كانت المنفعة تربو كثيراً على المفسدة