أولاً. السلطة المقيدة:
على الرغم من أن المشرع السوري ذكر بعض حالات المانع الأدبي بموجب نص
المادة/ 57 / بينات على سبيل المثال لا الحصر، إلا أنه حصر المانع الأدبي بالنسبة لروابط القرابة، بالقرابة ما بين الزوجين، والقرابة ما بين الأصول والفروع، وقرابة الحواشي إلى الدرجة الثالثة، وقرابة المصاهرة ما بين أحد الزوجين وأبوي الزوج الآخر.
وبالتالي فإن سلطة القاضي في تقدير المانع الأدبي بالنسبة لروابط القرابة تكون محصورة في هذا النطاق، بحيث لا يجوز التوسع في هذه الحالات أو الإضافة عليها؛ وذلك لأن المشرع السوري لم يطلق النص كما فعلت التشريعات الأخرى كالتشريع المصري، أي أن تحديد متى تعتبر صلة القرابة مانعاً أدبياً من الحصول على دليل كتابي في نص المادة / 57 / بينات حول هذه الصلة من مانع خاص ذاتي إلى مانع موضوعي عام، بحيث يعتبر المانع الأدبي قائماً بمجرد قيام هذه الدرجة من القرابة وعلى من يدعي فقدأنه أن يثبت ذلك.
ولذلك فإن سلطة القاضي المصري تكون أوسع من سلطة القاضي السوري في تقدير
المانع الأدبي بالنسبة لروابط القرابة؛ إذ يتوجب- وفق اً لمتشريع المصري –على من يدعي
قيام المانع الأدبي بين الأقرباء أن يثبته مهما كانت درجة القرابة، مما يتيح للقاضي سلطة واسعة في تقديره.
وذلك بخلاف التشريع السوري إذ يتوجب على القاضي بمجرد توافر إحدى درجات القرابة التي نصت عليها المادة / 57 / بينات، وتمسك صاحب الشأن بها أن يقرر وجود المانع الأدبي، وعلى من ينكر قيام المانع الأدبي رغم وجود القرابة المعينة بالنص أن يثبت ذلك.
ولذلك يمكننا القول أن دور القاضي لدينا في مجال المانع الأدبي المفترض بنص القانون هو دور مقيد، فإذا ما طالب أحد الأطراف بالإثبات بالشهادة لوجود مانع أدبي مستنداً في ذلك لوجود إحدى حالات القرابة التي ذكرها المشرع بنص المادة / 57 /، كلفه القاضي بإثبات هذه القرابة، وبمجرد إثباتها تقوم قرينة قانونية لمصلحة من يتمسك بها على وجود المانع الأدبي، ولا يستطيع القاضي أن يتجاهل القول بوجود المانع المفترض دون أن يكلف مدعيه بإثبات قيامه، أو أن ينفي وجود المانع، أو يرفض من تلقاء نفسه طلب الإثبات بالبينة رغم إثبات وجود المانع المفترض أو أن يتجاهله.
ومن جهة أخرى لا يستطيع القاضي أن يقرر من تلقاء نفسو وجود المانع الأدبي القائم بحكم القانون دون أن يتمسك بذلك صاحب الشأن، أو دون أن يكلفه بإثبات درجة القرابة؛ ذلك أن وسائل الإثبات ملك الخصوم وليست من النظام العام ولا يجوز للمحكمة إثارتها من تلقاء نفسها. ففي جميع هذه الأحوال يجب على القاضي التقيد بالقواعد المبينة والا كان حكمه عرضةً للنقض.
وبالتالي تكون سلطة القاضي السوري في تقدير وجود المانع المفترض معدومة؛ فلا يستطيع أن يتجاهل قيامه إذا ما تمسك به صاحب الشأن.
ولكن إذا ما أنكر الطرف الآخر المانع الأدبي الذي تمسك به صاحب الشأن لوجود أحد الأسباب التي تؤدي لإهداره، فإن سلطة القاضي تتسع هنا للبحث في مدى صحة زوال المانع المفترض من بقائه. واذا ما قرر القاضي زوال المانع الأدبي فأنه يتوجب عليه أن يبين في حكمه الأسباب التي استند عليها في إهدار المانع وكيفية استخلاصها من الثابت في أوراق الدعوى؛ وذلك حتى تتمكن محكمة النقض من بسط رقابتها على الحكم وتتأكد من صحة النتيجة التي توصل إليها بحيث تكون مقبولة عقلا، والا كان حكمه جديراً بالنقض.
كما أن سلطة القاضي في تقدير المانع الأدبي بالاستناد إلى روابط القرابة تقف عند الحد الذي نص عليه المشرع ، فيكون القاضي مقيداً بذلك الحد بحيث لا يجوز له تقرير وجود المانع الأدبي بالنسبة لرابطة قرابة لم يُنص عليها. وذلك ما أكدته محكمة النقض في قرار لها جاء فيه:
( إن المادة / 57 / بينات حددت القرابة على سبيل الحصر بمعرض المانع الأدبي، فاقتصرت على القرابة ما بين الزوجين، أو الأصول والفروع، أو بين الحواشي إلى الدرجة الثالثة، أو ما بين أحد الزوجين وأبوي الزوج الآخر، فلا مساغ لتوسيع مدى نطاق هذه القرابة الذي تولت المادة المذكورة تحديده).
فإذا أجاز القاضي الإثبات بالشهادة والقرائن لوجود مانع أدبي مبني على رابطة قرابة لم يأتي على ذكرها المشرع ، ولمجرد هذه القرابة دون أي أسباب أخرى تسوغ المانع الذي قرره، فأنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون ويكون حكمه حرياً بالنقض، ومثل هذا الخطأ قد يعرضه للمخاصمة؛ لأنه يعتبر خطأً مهنياً جسيماً.
وفي سياق ذلك نقضت محكمة النقض قراراً أجاز الإثبات بالبينة مستنداً في ذلك على درجة قرابة لم تذكر بموجب المادة / 57 / بينات حيث جاء فيه:
( إن قرابة زوج أخت المدعي لا تشكل مانعاً أدبياً يجيز الإثبات بالشهادة).
كما جاء في قرار آخر:
(إن المادة / 57 / بينات حددت القرابة على وجه الحصر وليس من بينها القرابة بين الزوج وابن الزوج الآخر).
وقد تم التوضيح سابقاً بخصوص القرابة الصهرية أنه لا مجال للاستدلال بنص المادة 39 / من القانون المدني السوري، والتي تعتبر أحد الزوجين في نفس الدرجة والقرابة بالنسبة للزوج الآخر؛ طالما أن ما ورد بموجب المادة / 57 / بينات وبالنسبة للقرابة قد جاء على سبيل الحصر. وهذا ما أكدته محكمة النقض السورية حيث جاء في أحد قراراتها :
( لا تعتبر القرابة بين الزوجة وشقيق زوجها مانع اً أدبياً بحكم القانون في مجالالإثبات بالشهادة؛ لأنها لا تدخل في ضمن تعداد الأقارب وفق المادة / 57 / والذي جاء على سبيل الحصر. وان الاجتهاد القضائي ذىب إلى أنه لا مجال لاعتبار درجات القرابة المشار إليها في المادة / 39 / مدني في مجال تطبيق المادة / 57 / بينات).
يتضح مما تقدم أن سلطة القاضي في تقدير المانع الأدبي القائم على القرابة مقيدة من ناحيتين، فهو مقيد بقيام هذا المانع بمجرد التمسك به من قبل صاحب المصلحة، ومن ناحية أخرى يكون مقيداً بنطاق هذا المانع في حدود درجات القرابة الواردة في المادة/57 / بينات.
ويترتب على هذا التقييد، أن مسألة تقدير المانع الأدبي المبني على روابط القرابة تعتبر مسألة قانونية وليست موضوعية، يتقيد القاضي بموجبها بنص المادة / 57 / بينات، وبما استقر عليه الاجتهاد القضائي لدينا، ويخضع في هذا التقدير لرقابة واسعة من محكمة النقض.
وفي اعتبار هذا التقدير مسألة قانونية ورد في اجتهاد لمحكمة النقض السورية:
(استقر الاجتهاد على أنه لا مانع أدبي بين أخت الزوجة وصهرها، إن هذا الأمر من المسائل القانونية).
ثانياً. السلطة المطلقة:
إذا كان المشرع قد حدد بموجب نص المادة / 57 /بينات حالات القرابة التي تعتبر مانعاً أدبياً بحكم القانون من الحصول على دليل كتابي، فحول معيار المانع الأدبي بالنسبة لهذه الحالات من معيار ذاتي إلى معيار موضوعي مفترض، مقيد اً بذلك سلطة القاضي في تقدير قيام المانع القائم على القرابة.
إلا أن ذلك لا يعني أن سلطة القاضي في تقدير المانع الأدبي تقف عند الحالات المذكورة.
فمن المتفق عليه فقياً واجتهاداً أن حالات المانع الأدبي قد وردت على سبيل المثال لا الحصر.
وقد أشارت إلى ذلك المذكرة الإيضاحية لقانون البينات وذكرت بعض الأمثلة على الموانع الأدبية التي يعود تقديرها للقاضي.
ولذلك فإن ذكر بعض الحالات التي تعتبر مانعاً أدبياً ليس من شأنه أن يسلب المانع الأدبي ذاتيته بالنسبة للمتعاقدين، ولولا هذا الذاتية لما أمكن نفي قيام المانع الأدبي الذي افترض المشرع قيامه بين الأقرباء.
وبالتالي فإن معيار المانع الأدبي فيما خلا الحالات المذكورة بنص المادة / 57 / بينات يعتبر معيار ذاتي أي خاص نسبي يختلف من شخص لآخر.
وهنا تظهر السلطة الممنوحة لقاضي الموضوع في تقدير المانع الأدبي. فتقدير المانع الأدبي بين أقرباء لا يشملهم نص المادة / 57 /، أو بين أشخاص لا تجمعهم أي رابطة قرابة إنما يعود لمطلق سلطة القاضي التقديرية. وهذا ما أكدته محكمة النقض السورية في قرار لها :
( حق القاضي بتقدير المانع الأدبي أو انتفائه ينحصر بين أفراد لا تربطهم صلاة القرابة، وليس له هذا التقدير بين الأقارب).
وتقدير قيام المانع في هذه الحالات يعتبر مسألة موضوعية لا قانونية، ولاسيما وأن المانع الأدبي استثناء من قاعدة وجوب الدليل الكتابي، فلزوم ذلك أن يمنح القاضي سلطة واسعة في تقدير هذا المانع حتى يتحرى من مدى وجوده فعلاً بين المتعاقدين، فيقدر هذا المانع بناءً على ظروف كل قضية وملابساتها، فما يعتبر مانعاً أدبياً في حالة ما قد لا يعتبر مانعاً في حالة أخرى.
فكلما وجد القاضي أن العلاقة بين الأطراف تحول من الناحية النفسية دون الحصول على دليل كتابي اعتبر ذلك مانعاً أدبياً وأجاز معه الإثبات بالشهادة.
فالمانع الأدبي هو صلة بين المتعاقدين تحول نفسياً ومعنوياً دون الحصول على الدليل الكتابي؛ لأن طلب الدليل الكتابي مع وجود بعض الصلاة الخاصة والثقة المتبادلة بين المتعاقدين يؤدي إلى زعزعة الثقة فيما بينهم .
ومن ثم يعتبر المانع أدبياً إذا كانت الظروف التي تم فيها التعاقد أو الصلاة التي تربط بين المتعاقدين وقت التعاقد لم تسمح من الناحية الأدبية لأحد المتعاقدين باقتضاء كتابة من الأخر.
وتكون الاستحالة في هذه الحالة استحالة باطنية أو نفسية لا استحالة مادية أو خارجية كما في الموانع المادية، ولذلك يكون تقديرها أكثر صعوبة من الاستحالة الناشئة عن الموانع المادية، إذ يقتضي تحري أثر الظروف المحيطة بالتعاقد في نفس المتعاقد لإمكان القول: أنه بلغ حداً كان يستحيل معه على المتعاقد أن يأخذ كتابة ممن تعاقد معه .
ومن البدييي أن هذا الأثر النفسي يختلف من شخص لآخر فلا يمكن وضع قواعد أو ضوابط لما يعتبر مانعاً أدبياً.
ومادام أن المانع الأدبي هو مانع نسبي يختلف من شخص لأخر، وهو يتصل بظروف الاتفاق أو التصرف، وبالعلاقات القائمة بين المتعاقدين، فإن أمر تقديره يعود لقاضي الموضوع ولا يخضع في هذا التقدير لرقابة محكمة النقض، متى كان استخلاصه مستساغاً، أي متى كانت الأسباب مؤدية للنتيجة التي انتهى إليها، وبناءًعلى ذلك فأنه يتعين على القاضي أن يبين في حكمه الأسباب التي استخلص منها وجود المانع الأدبي؛ وذلك حتى تتمكن محكمة النقض في حالة الطعن بالحكم أمامها من التحقق أن هذا الاستخلاص كان مقبول عقلاً وموافقاً لظروف القضية وملابساتها.
مما يحول دون تساهل قاضي الموضوع كثيراً في تقديره لوجود المانع واجازته الإثبات بالشهادة فيهدر بذلك القاعدة التي أوجب القانون بها الإثبات بالكتابة.
وهذا ما أكدته محكمة النقض في العديد من قراراتها نذكر منها:
(إن حق تقدير وجود المانع الأدبي يعود للقاضي شريطة تعليل قراره وانسجامه مع الوقائع).
(إن مسألة وجود مانع أدبي من عدمه هي ناحية موضوعية تملك محكمة الموضوع حق
تقديرها).
( إن اعتبار صلة ما بين أطراف الخصومة من الموانع الأدبية التي تحول دون الحصول على دليل كتابي أو نفي هذه الصفة عنها من الأمور الواقعية التي تستقل بتقديرها محكمة الموضوع بلا معقب عليها من محكمة النقض).
أما إذا خالف القاضي في تقديره للمانع الأدبي القانون والقواعد العامة للإثبات، كأن اعتبر مجرد القرابة بين أبناء العم مانعاً أدبياً وأجاز الإثبات بالشهادة استناداً إلى ذلك أصبح تقديره مسألة قانونية خاضعة لرقابة محكمة النقض.
ومثل ذلك أيضاً إذا كان استنتاجه مخالفاً للمنطق، كأن يستخلص قيام المانع الأدبي من تعارف عابر بين شخصين أثناء رحلة في طائرة أو قطار، فإن استخلاصه هذا يصبح مسألة قانونية خاضعة لرقابة محكمة النقض؛ لأن هذا الاستخلاص أمر لا يستقيم مع المنطق السليم.
ولا تستطيع محكمة النقض فرض رقابتها إلا إذا كان القرار معللاً، لذلك يجب على القاضي تعليل قراره حتى تستطيع محكمة النقض التمييز بين المسائل الموضوعية المتروكة لقناعة القاضي، والمسائل القانونية الخاضعة لرقابتها.
ويعود لمحكمة النقض في كل حال أن تدقق فيما إذا كان الحكم معللاً كفاية من حيث ذكر الوقائع والظروف التي بني عليها قيام المانع الأدبي، ولها أن تنقض الحكم الذي دون أن يقدر ظروف القضية بذاتها، قد استند للقول بوجود المانع الأدبي إلى مجرد قيام صلاة القرابة البعيدة أو الصداقة أو غيرها من الروابط أو العادات والأعراف