الأمر هنا يقصد به الفعل وهو عمل الجوارح، والقول أيضاً من جملة الأفعال لأنه ينشأ من جارحة اللسان، فلو طلّق رجل زوجته في قلبه ولم ينطق بلسانه لا يترتب على ذلك الفعل الباطني حكم لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالظواهر ، أما ألفاظ الطلاق الصريحة فلا تحتاج إلى نية، ويكفي حصولها لترتب أحكامها عليها ؛ لأن النية متمثلة بها.
والكلام على تقدير مقتضى أي أحكام الأمور بمقاصدها؛ لأن الفقه يبحث عن أحكام الأشياء لا عن ذواتها، فألفاظ التمليكات كالبيع والهبة والإجارة والصلح إذا لم يقترن بها ما يقصد به إخراجها عن إفادة ما وضعت له، تفيد حكمها وهو الأثر المترتب عليها من التمليك والتملك، لكن إذا اقترن بها ما يخرجها عن إفادة هذا الحكم كإرادة النكاح مثلاً، فإنه يسلبها إفادة حكمها المذكور وتكون نكاحاً.
إلا أنه يشترط في الإجارة والصلح أن تكون المرأة بدلاً ليكون نكاحاً ، فلو كانت في الإجارة معقود عليها لا يكون نكاحاً، ولو كانت في الصلح مصالحاً عنها بأن ادعى عليها النكاح فأنكرت فصالحته على مال رفعته له ليكف عنها، صح الصلح وكان خلعاً .
وأفعال المكلفين منوطة بمقاصدهم فلو أن الفاعل قصد بالفعل الذي فعله أمراً مباحاً كان فعله ،مباحاً، وإن قصد محرّماً كان حراماً، ولا تجري هذه القاعدة إلا في المباحات وهي نظير الحديث الشريف: “وإنما الأعمال بالنيات” .. ولا تجري بين أمرين مباحين لا تختلف بالقصد صفتهما، كما لو وقع الخلاف في كون الفرقة مبارأة أو خلعاً، لأن الاختلاف حينئذٍ لا يترتب عليه ثمرة، بل تجري هذه القاعدة بين مباحين تختلف صفتهما بالقصد كما لو دار اللفظ بين البائن والرجعي، وتجري بين مباح ومحظور كما بين نكاح لدوام العشرة أو للتحليل .
لذلك فما دام ظاهر التصرف محتملاً للقصد الذي وراءه فيتغير الحكم بتغير القصد، وإذا لم يحتمله أُعمل الظاهر وألغي القصد،
فمن قال لزوجته: اذهبي أهلك، نظر إلى قصده، فإن كان الطلاق حكم عليه به لاحتمال اللفظ له، وإن كان قصده غير الطلاق لم يُحكم عليه به لاحتمال اللفظ غير الطلاق أيضاً.
أما إن قال لزوجته: أنت طالق حكم عليه بالطلاق وإن لم يقصده لأن الطلاق لا يحتمل غيره، وذلك في الحكم الدنيوي قضاء، أما بينه وبين ربه فيقبل منه قصده ولا يقع منه الطلاق ديانة.
إلى
بيت
صریح
والطلاق يقع بالألفاظ المصحفة قضاء، ولكن لا بد أن يقصدها باللفظ ، والألفاظ المصحفة للطلاق خمسة تلاق تلاغ، طلاغ، تلاك، طلاك، فيقع الطلاق بها قضاء ولا يصدق بعدم قصده إلا إذا أشهد على ذلك بأن قال: امرأتي طلبت مني الطلاق وأنا لا أطلق.
ولا فرق في ذلك بين العالم والجاهل، وعليه الفتوى كما في البحر، وظاهر الإطلاق يشمل ما إن لم يكن ألثغاً، فلو قال لامرأته طارق، وأدغم الراء وأخفاها يلزمه بذلك شيء فلا تطلق امرأته.
ولو طلق غافلاً أو ساهياً أو مخطئاً وقع الطلاق، وفي عبارة بعض الكتب أن طلاق المخطئ واقع قضاء لا ديانة ، والغفلة سهو يعتري الإنسان من التحفظ والتيقظ، وبه يعلم أن السهو مرادف للغفلة وهما غير النسيان الذي هو ترك الإنسان ضبط ما استودع على حفظه إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة .
وطلاق المخطئ صحیح لأن القصد أمر باطني يتعلق بالسبب الظاهر الدال عليه، وهو أهلية القصد بالعقل والبلوغ، وعلى هذا فلا ينبغي أن يقع طلاق النائم؛ لأن النوم ينافي أصل العمل بالعقل، ولأن النوم مانع عن استعمال نور العقل فكانت أهلية القصد معدومة بيقين.
لو كرر مسائل الطلاق بحضرتها ويقول في كل مرة: أنت طالق، لم يقع.
ولو كتب أحد ما : امرأتي طالق أو أنت طالق وقالت له: اقرأ علي؟ فقرأ عليها، لم يقع الطلاق عليها لعدم قصده زوجته باللفظ .
الطلاق باللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية لظهور المراد به، ولو قال لزوجته : أنت طالق، ناوياً الطلاق من وثاق لم يقع ديانة ووقع قضاءً ، وهذا إذا لم يقرنه بالثلاث، أما لو قرنه لم يصدق بأنه لم ينو طلاقاً؛ لأنه لا يتصور رفع القيد ثلاث مرات، فانصرف اللفظ إلى قيد النكاح كيلا يلغو. وهذا التعليل يفيد اتحاد الحكم فيما لو قال مرتين. .
ولو طلقها هازلاً يقع قضاء وديانة، لأن الشارع جعل هزله جداً .
ولا تصح نية الثلاث في : أنت طالق ولا نية البائن ، لأنه بنية الإبانة قصد تنجيز ما علقه الشارع بانقضاء العدة فيُردّ عليه.
وما بينه العلامة التفتازاني التلويح من أن الطلاق الذي يدل عليه (طالق) لغة هو صفة المرأة وهو ليس بمتعدد في ذاته، بل يتعدد بتعدد ملزومه – أي التطليق ـ الذي هو صفة الرجل .
وتصح نية الثلاث في المصدر في قوله : أنت الطلاق ، هذا إذا لم يكن طلقها قبل ذلك واحدة، أما إذا طلقها قبل ذلك يقع واحدة لأنه فرد حقيقة ولو نوى اثنتين. .
وكنايات الطلاق لا يقع بها إلا بالنية ديانة سواء كان معها مذاكرة الطلاق أو لا، والمذاكرة تقوم مقام النية في القضاء إلا في لفظ الحرام فإنه كناية لا يحتاج للنية فينصرف إلى الطلاق إذا كان الزوج من قوم يريدون بالحرام الطلاق.
والتفويض بالطلاق والخلع والإيلاء والظهار وكذلك الرجعة، فما كان منها صريحاً لا تشترط له النية وما كان كناية اشترطت له.
ولو قال لزوجته : طالق، وهو اسمها ولم يقصد الطلاق، قالوا لا يقع، كما في الفتاوى الخانية. .
ولو قالت لزوجها: تزوجت عليَّ ؟ فقال : كل امرأة لي طالق، طلقت وعن أبي يوسف لا تطلق، وفي المبسوط : (قول أبي يوسف عندي المحلّفة، أصح) وبه أخذ مشايخنا .
لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال : إحداكما طالق ولم ينو شيئاً، لا تطلق امرأته عند الإمام ؛ لأنه أضاف الطلاق إلى مبهم وهـو غـيـر مـحـل الطلاق، وعندهما تطلق لأن المضموم للزوجة لا باعتبار شخصه بل باعتبار نوعه هو محل للطلاق فيكون الطلاق واقع في محله فيتعين على الزوجة .
والمسألة نفسها فيما لو جمع بين زوجته ورجل أو بينها وزوجته الميتة، أما لو جمع بين زوجته وما ليس بآدمي كبهيمة أو حجر فيقع الطلاق عند الجميع ؛ ؛ لأن المضموم
إلى الزوجة ليس محلاً للطلاق فيتعين على الزوجة . كذا في الخانية. .
لو كان له امرأتان عمرة وزينب فقال : يا زينب فأجابته عمرة فقال : أنت طالق ثلاثاً، وقع الطلاق على التي أجابت وإن قال: نويت زينب، طلقت زينب، فيقع الطلاق على زينب بمجرد النية. .
ولو قال لزوجته: أنت عليَّ مثل أمي أو كأمي، فإن قال: أردت الكرامة، فهو كما قال؛ لأن التكريم بالتشبيه فاش في الكلام، وإن قال : أردت الظهار، فهو ظهار لأنه تشبيه بجميعها، وإن قال : أردت الطلاق فهو طلاق بائن، وإن لم تكن له نية فليس بشيء عند الشيخين، وعند محمد ظهار، وإن عنى به التحريم لا غير فعند محمد ظهار وعند أبي يوسف إيلاء؛ لأنه حاصل تحريم قربانها .
ويستثنى من هذه القاعدة ما لو أتى وصي على قاصر الأهلية أو فاقدها عملاً غير مأذون فيه، فإنه يضمن الخسارة الناشئة عن عمله ولو كانت رغبته الربح، وكذا لو أن شخصاً شاهد قاصراً دون سن التمييز وأخذ نقوداً بقصد حفظها فحكمه حكم الغاصب . ضامناً ويصبح فيما لو تلفت .