هذه القاعدة هي مجموع قاعدتين : الأولى (لا ينسب إلى ساكت قول)، والثانية: (السكوت في معرض الحاجة بيان ) وهي استثناء وقيد من الأولى.
ثم إن التصرفات الشرعية القولية مبناها على صحة الإرادة وسلامتها، إلا أن الإرادة أمر خفي واستعيض عنها بالكلام الدال عليها كما استعيض عنها عندما تعذر الكلام بالكتابة والإشارة،
أما السكوت فليس عوضاً عن الإرادة ولا دليلاً عليها فلا يعطى حكم الكلام إلا عند الحاجة إلى اعتباره.
والمراد بمعرض الحاجة الذي يكون فيه السكوت في حكم البيان والتعبير هو كل موطن يلزم فيه التكلم لدفع ضرر أو غرر، أو يكون فيه السكوت طريقة عرفية للتعبير
أما الساكت غير الكائن في معرض الحاجة إلى بيان ولا مستعين بالإشارة لتفسير لفظ مبهم فلا ينسب إليه قول . وجميع المعاملات المرتبطة بالألفاظ الصريحة لا يعد السكوت فيها قولاً .
والفقرة الأولى من المادة مأخوذة من الأشباه والثانية من كلام الأصوليين، فقد جاء في المرآة : من بيان الضرورة السكوت لدى الحاجة إلى البيان بما يدل على كون السكوت بيان حال المتكلم الذي شأنه التكلم في الحادثة.
ومن فروع الشق الأول من القاعدة:
لو رأى القاضي الصبي أو المعتوه يبيع ويشتري فسكت، لا يكون سكوته إذناً بالتجارة ولو لم يكن ولي لهما . ومنها: لو تزوجت غير كفء فسكت وليها عن طلب التفريق لا يكون سكوته رضاً على ظاهر المذهب ما لم تلد، فإذا ولدت فليس للولي التفريق حفظاً للولد عن التشتيت، لكن الحسن روى عن أبي حنيفة أن العقد لا يجوز وعلى روايته الفتوى ، أما لو تزوجت بغير كفء وسكت الولي حتى ولدت فيكون سكوته رضاً كما نص عليه الزيلعي في التبيين .
.ومنها: لو سكتت زوجة العنين لا يكون سكوتها رضاً، ولو أقامت معه سنين .
ومنها : إذا أخذت الزوجة شيئاً من مال زوجها واستعملته وهو يعلم ويرى، ثم ادعت إنه وهبها إياه مستدلة بسكوته، لم تصدق في دعواها، لأن السكوت لا يجعل الأخذ هبة .
أما الجزء الثاني من القاعدة، فقد عدَّ الحنفية من تطبيقاته نيفاً وأربعين مسألة
منها : لو سأل البكر وليها عن موافقتها على الزواج من فلان فسكتت، عد ذلك منها موافقة على الزواج المعروض عليها، لضرورة ما بها من الاستحياء، وذلك على خلاف الثيب فإن سكوتها لا يعتبر رضاً منها بالزواج. واستحياؤها عن إظهار الرغبة في الرجال لا عن إظهار عدمها . أما لو استأمر البكر الجد وجود الأب فلا يكون سكوتها رضاً.
ومنها : لو بلغ البكر النكاح بعدما زوجها وليها من غير استئمار على سبيل الفضول وسكتت ينبرم العقد بعد وجوده موقوفاً .
ومنها: لو سكتت عند بلوغها بكراً عالمة بتزويج وليها لها سقط خيارها ، أما لو كان المزوّج لها غير الأب والجد، أو كانت عند بلوغها ثيباً فلا يسقط خيارها إلا بصريح القول. .
ومنها: لو سئل شخص عن مجهول النسب هل هو ابنه أو لا، فأشار بالإقرار به، ثبت نسبه لأن إشارته هذه مع حرصه على صيانة النسب وتمكنه من النفي يقوم مقام القول .
ومنها : إذا دفعت الأم في جهاز بنتها أشياء من أمتعة الأب والأب يعلم ذلك وهو ساكت فليس له الاسترداد من بنته ، وكذا إنفاق الأم في جهاز بنتها من مال الأب ما هو معتاد والأب ساكت فهو إذن منه . .
ومنها: سكوت البكر عند قبض المزوِّج لها ـ أباً كان أو غيره ـ مهرها إذن منها بقبضه ما لم تنهه .
ومنها: لو حلفت أن لا تتزوج فزوجها أبوها وسكتت، حنثت، ولو حلفت لا تأذن في الزواج فزوجها وكيلها وسكتت لم تحنث، والفرق بين المسألتين بأن حلفها الأول على الزواج وقد وجد شرعاً وعرفاً، وحلفها الثاني على الإذن ولم يوجد عرفاً، والأيمان مبنية على العرف .
ومنها: سكوت المزكي عند سؤاله عن الشاهد إذا كان عالماً بحاله تعديل، وسكوته يقوم مقام نطقه .
ومنها : رجل زوج رجلاً بغير أمره فهنّاه القوم وقبل التهنئة، فهو رضى لأن قبول التهنئة دليل الإجازة. .
ومنها: سكوت المقرّ له يعد قبولاً ، كأن يقرّ شخص بمال لآخر ويسكت المقر له فسكوته يعد تصديقاً وقبولاً بالإقرار.
ومنها : إذا وجبت اليمين على أحد فكلفه الحاكم بها فسكت بدون عذر كان سكوته نكولاً .
ومنها: إذا عجز عن الإثبات وطلب التحليف فعُرضت اليمين على المدعى عليه فسكت دون أن يحلف أو ينكل يعتبر ناكلاً عن اليمين ويقضي الحاكم عليه؛ لأن توقف سير المحاكمة على كلامه يضر بالمدعي بتأخيره عن حقه.
ويستثنى من هذه القاعدة ما ذكر في الدر وحاشيته من أن الزوجين لو شرطا في عقد النكاح تأجيل كل المهر ولم يشترطا الدخول قبل حلول الأجل، فللزوجة أن تمنع نفسها عن الزوج إلى أن تقبض المهر استحساناً، وبه يُفتى. وعللوه بأن الزوج لما طلب تأجيل كل المهر فقد رضي بإسقاط حقه في الاستمتاع بدون قبول منه .
تنبيه : مما يتفرع على الشق الثاني من المادة مسائل غير ظاهرة التفريع، قولهم :
– سكوتُ الوكيل قبول للوكالة .
-سكوت المفوَّض إليه الطلاق قبول للتفويض .
– سكوت الموقوف عليه قبول للوقف .
– سكوت المقر له قبول للإقرار .
– سكوت الزوج عند الولادة اعتراف بالنسب.
وذلك لأن الوكالة والوقف والإقرار لا تحتاج إلى قبول، وإن كانت ترتد بالرد، ولأن تفويض الطلاق كذلك لا يحتاج إلى قبول حيث إنه تعليق من الزوج ولا يملك الرجوع عنه، أما ثبوت نسب ولد الزوجة فليس بالسكوت بل بحكم الفراش القائم بالنكاح. فهذه مسائل ينطبق عليها الشق الثاني من القاعدة لكنها ليست من فروعها .