القصد العام والقصد الخاص في جرم القتل
إن القصد الجرمي العام، الذي يتطلبه القانون في كافة الجرائم المقصودة، يستلزم لتوافره عنصري العلم والإرادة.
والعلم يجب أن ينصب، كما أسلفنا، على أركان الجريمة.
والإرادة يجب أن تتجه إلى ارتكاب الفعل الجرمي وإلى تحقيق النتيجة التي تترتب على هذا الفعل.
أما القصد الجرمي الخاص، ففيه يتطلب المشرع، لقيام الركن المعنوي، في بعض الجرائم، إضافة لتوافر القصد العام بعنصرية، أن تتصرف نية الفاعل إلى تحقيق غرض معين أو باعث معين.
والمبدأ أنه لا عبرة للباعث أو الدافع على ارتكاب الجريمة في قيام الركن المعنوي فيها.
إلا أن القانون قد يعتبر هذا الباعث أو الدافع عنصرا من عناصر التجريم، حين يشترط توافره، كقصد جرمي خاص، بحيث تنتفي الجريمة بانتفاء هذا القصد الخاص، أو على الأقل يتبدل النموذج القانوني للجريمة من وصف إلى أخر.
وبخصوص جرم القتل، وبيان ما إذا كان يكتفي فيه بالقصد العام أم يشترط توافر قصداً جرمیاً خاصاً، لابد من العودة إلى تعريف جرم القتل الذي هو إزهاق روح إنسان حي.
فهذه الجريمة إذن لا تتحقق إلا إذا انصب العلم والإرادة على الفعل المكون للجريمة وعلى نتيجته، أي الوفاة.
فعندما تتجه إرادة الجاني إلى إزهاق روح المجني عليه تقوم جريمة القتل، فإن مات المجني عليه اعتبر الجرم قتلاً تاماً، وإن لم يمت وقفت الجريمة عند حد الشروع وباعتبار أنه لابد أن تنصرف الإرادة نحو إزهاق الروح، أي توفر نية القتل، فهل تعتبر هذه النية قصدا خاصا أم عام؟
سبق و أشرنا أن القصد الخاص يتضمن ابتداء القصد العام.
فإذا قلنا أن نية إزهاق الروح في القتل هي قصد خاص، فهذا الكلام لا يستقيم إطلاقاً، باعتبار أن هذه النية تدخل في مفهوم القصد العام ( إرادة الفعل والنتيجة ).
فالقصد العام في القتل لا يتوافر إلا إذا انصب العلم والإرادة على النشاط الجرمي وعلى النتيجة، وبالتالي فإن نية القتل تدخل في عناصر القصد العام.
وإذا قلنا بأن المساس بالسلامة الجسدية للمجني عليه هو القصد العام في القتل، وإرادة إزهاق الروح تشكل القصد الخاص فيه، فهذا الكلام لا يستقيم أيضا، باعتبار أن فعل المساس بالسلامة الجسدية، دون نية القتل، يكون القصد الجرمي العام لجرائم الإيذاء .
إذن ما دام يلزم لتوافر القصد الجرمي العام اتجاه الإرادة، في آن واحد، إلى الاعتداء و إلى إحداث النتيجة، وهي إزهاق الروح، فلا داعي للحديث عن ضرورة توافر قصد خاص في جرم القتل، يتمثل في نية إزهاق الروح، تلك النية المطلوب توفرها أصلا لقيام القصد العام .
إذن كي نتحدث عن قصد خاص في جرم القتل يجب أن تنصرف إرادة الفاعل إلى تحقيق غاية أبعد من الوفاة، أو أن يتجلى هذا القصد في صورة باعث أو دافع يحرك إرادة الفاعل نحو إزهاق روح الضحية.
والقانون، كما أسلفنا لا يتطلب ذلك في الركن المعنوي لجرم القتل.
ونية إزهاق الروح، كقصد جرمی عام، هو المطلوب توافره في جميع جرائم القتل المقصود، سواء كان بسيطاً أو مخففاً أو مشدداً.
إلا أن القانون اشترط، إضافة لهذا القصد العام، توفر قصد جرمي خاص كي يقوم النموذج القانوني المطلوب لجرم القتل المخفف أو المشدد.
والمثال على ذلك: القتل اتقاء للعار.
فلقد عاقب المشرع بنص المادة 537 عقوبات الأم التي تقتل وليدها التي حملت به سفاحاً اتقاء للعار، بعقوبة أخف من عقوبة جرم القتل البسيط، أي اعتبر القتل مخففاً.
وسبب التخفيف هنا توفر القصد الجرمي الخاص بهذه الجريمة، وهو اتقاء العار.
أما إذا لم يتوفر هذا القصد الخاص، فتبقى الجريمة قتلاً بسيطاً، لقيام القصد العام.
والمثال الآخر على اعتبار القتل مشددا إذا توفر القصد الخاص بالقتل تمهيدا لارتكاب جريمة أو تنفيذها أو تسهيل فرار فاعليها، مضمون المادة 335 من قانون العقوبات.
فعند توفر هذه الغاية لدى القاتل اعتبر ذلك قصداً جرمياً خاصاً موجباً لاعتبار القتل مشدداً. و غياب هذا القصد الخاص يبدل النموذج القانوني للوصف الجرمي من قتل مشدد إلى قتل بسيط، وذلك لتوافر القصد الجرمي العام أصلا.
– متى ينبغي توافر القصد الجرمي؟
يجب أن يتوفر القصد الجرمي في كل الجرائم المقصودة ومنها القتل وقت ارتكاب الفعل. ولا عبرة بعد ذلك إذا توفر عند تحقيق النتيجة أم لا.
فإذا ثبت أن الفاعل قد أراد إزهاق روح الضحية عند مباشرته لاعتدائه اعتبر القتل مقصودا، ولو تغيرت هذه النية عند حدوث النتيجة.
والمسألة لا تثير أية صعوبة إذا حصلت النتيجة مباشرة بعد الاعتداء. كما لو أطلق الجاني النار على خصمه بنية قتله، فمات فورا.
إلا أن المسألة تصبح أكثر تعقيدا إذا لم يمت المجني عليه فورا، وتغيرت نية الفاعل.
فلو أن المجني عليه، في المثال السابق، لم يمت من الطاقة، وندم الفاعل على فعلته، وتغيرت نيته، وحاول إنقاذ ضحيته، إلا أن محاولته فشلت، وماتت الضحية بعد فترة من الزمن. فالمبدأ، كما قلنا، أنه يلاحق كقاتل قصدا ما دامت النية قد توفرت عند ارتكاب الفعل، بغض النظر عن تغيرها عند النتيجة.
ولكن ما القول إذا نجحت مساعي الفاعل واستطاع إنقاذ حياة خصمه الذي أطلق عليه النار قاصدا قتله؟
يطلق الفقه الجزائي على هذه الحالة تعبير “الندم الإيجابي”.
وقد عالجها المشرع السوري في المادة 200 من قانون العقوبات.
حيث أجاز للقاضي تخفيض العقوبة إلى حد ثلاث عقوبة الشروع التام في القتل.
والمعروف أن عقوبة الشروع التام هي نصف عقوبة الجرم التام.
إذن اعتبر المشرع السوري حالة الندم الإيجابي ظرفا مخففا للعقاب.
ويثار في هذا المجال فرضية عدم توفر القصد الجرمي عند ارتكاب الفعل، وتوفره عند النتيجة الجرمية.
وعدم توفر القصد الجرمي عند مباشرة النشاط يعني بالضرورة أن الفاعل ارتكب خطأ مفضية إلى إزهاق الروح، ثم تنتبه إلى خطأه قبل حدوث النتيجة، فتوفرت نية القتل في هذه اللحظة وظلت مستمرة حتى حصول الوفاة، دون أن يتدخل الفاعل ليتلافى حصولها.
والمثال التقليدي الذي يذكره شراح القانون لهذه المسألة :
حالة الصيدلي الذي يخطئ في تركيب الدواء للمريض، فيضع فيه مادة قاتلة عن غير قصد، ثم يتنبه إلى خطأه بعد تسليم الدواء للمريض، ويمتنع عن لفت نظره إلى هذا الخطأ، بالرغم من قدرته على ذلك، ولا يحاول إيقاف المريض عن تناول الدواء السام قاصداً من ذلك إزهاق روحه، فيتناوله المريض ويموت.
والمبدأ في هذه الفرضية أن الفاعل لا يسأل إلا عن جريمة قتل غير مقصود، نتيجة للخطأ الذي وقع به، ولعدم توفر نية القتل عند مباشرة النشاط الخاطئ، وتوفرها عند النتيجة، ففي هذه الحالة لا تصلح هذه النية كر كن معنوي للقتل المقصود.
إلا أن تطبيق هذا المبدأ مشروط بأن تكون الأمور قد خرجت عن سيطرة الفاعل، ولم يعد بإمكانه التدخل لتلافي حصول النتيجة.
ففي هذه الحالة لا يبدل امتناعه عن التدخل الوصف الجرمي للفعل كقتل غير مقصود أما إذا كانت الأمور لا زالت تحت سيطرته، وكان بإمكانه التدخل لتلافي وقوع النتيجة، فيمتنع مع ذلك قاصد إزهاق روح الضحية، فيسأل عندئذ عن جريمة قتل مقصود.
وتبرير ذلك أن مبدأ عدم الاعتداد بالنية عند النتيجة مرهون بثبوت انتهاء الفعل قبل ظهور القصد، إذ بغير ذلك يبقى القصد معاصرة للفعل .
و معیار انتهاء الفعل هو زوال السيطرة الإرادية على الفعل وعلى آثاره الضارة. فما دام الفاعل مسيطرا على فعله وآثاره الضارة، يبقى الفعل مستمرا، أي لم ينته بعد، فإن ظهرت النية لديه عندئذ اعتبر فعله مقصودة، وذلك لأن النية عاصرت الفعل