محل إساءة الائتمان
إن محل إساءة الائتمان هو مال سلم من المجني عليه إلى المدعى عليه بناء على أحد عقود الائتمان، كي يحفظه له أو يستعمله في وجه معين، ولكنه استولى عليه خيانة لهذه الثقة.
يتضح من ذلك أن محل جريمة إساءة الائتمان لا بد أن يتوفر فيه شرطان:
. أن يكون مالاً مادياً منقولا مملوكاً للغير.
. أن يكون قد سلم للفاعل على سبيل الأمانة.
والشرط الأول كما هو واضح، أغلبه، مشترك بين إساءة الائتمان والسرقة والاحتيال، باستثناء كون محل الاحتيال يشمل العقار إضافة للمنقول. أما الشرط الثاني فتنفرد به إساءة الائتمان.
أولاً : کون محل إساءة الائتمان مالاً مادياً منقولاً مملوكاً للغير
أشار نصي المادتين 656 و 657 إلى محل إساءة الائتمان بأنه سند يتضمن تعهدا أو إبراء أو أي شيء منقول آخر، أو مبلغ من المال أو أي شيء آخر من المثليات.
– فيشترط في المحل الذي يقع عليه التسليم أن يكون شيئا له صفة المال.
والمال هو كل شيء يصلح لأن يكون محلا لحق الملكية، بصرف النظر عن طبيعة حيازته مشروعة أو غير مشروعة.
فإذا أودع شخص لدى أخر مواد مخدرة أو أسلحة غير مرخص بها، فتصرف بها الوديع، فهو يرتكب بذلك إساءة ائتمان.
فعلى الرغم من عدم مشروعية حيازة صاحب هذه الأشياء، فهي صالحة محلا لحيازة مشروعة من قبل الدولة، بالتالي يتحقق بتصرف مستلم المال على سبيل الأمانة الاعتداء على الملكية الذي تفترضة.
– ويشترط في المال محل التسليم أن يكون ماديا، لأن الشيء المادي هو الذي يقبل الحيازة والتسليم والاستيلاء، ويستوي بعد ذلك أن يكون صلباًة أو سائلا أو غازياً.
نستخلص من ذلك أن الأشياء المعنوية، كالأفكار والأسرار والمخترعات، لا تصلح محلاً لإساءة الائتمان، إلا إذا أودعت في وعاء مادي كسند أو وثيقة أو مخطوط.
وتطبيقاً لذلك من أؤتمن على اكتشاف أو اختراع فقام ببيعه لا يسأل عن إساءة ائتمان إلا إذا كان هذا الاكتشاف أو الاختراع قد صب في وثيقة أو سند، وتصرف المؤتمن بهذا السند، فإنه يعد مسيئا للائتمان، لأن السند له طابع مادي..
– ويشترط أن يكون المال منقولاً.
والمنقول بالمفهوم الجزائي هو كل شيء يمكن نقله من مكانه حتى ولو أدى إلى تلفه.
فيدخل ضمن هذا المفهوم المنقول بطبيعته و العقار بالتخصيص والعقار بالاتصال.
وليس اشتراط المنقول في محل جريمة إساءة الائتمان يعني أن هذه الجريمة لا يمكن تصورها بالنسبة للعقار.
بل على العكس فإساءة الائتمان متصورة في العقارات كما هي في المنقولات.
إلا أن المشرع خص هذا الجرم بالمنقول فقط لأنه قدر أن مالك العقار لا يحتاج إلى الحماية التي تقدمها عقوبة هذه الجريمة، باعتبار أنه يستطيع تتبع ماله الذي لا يمكن إخفاءه عنه، أما مالك المنقول فهو الذي يحتاج إلى هذه الحماية.
وتطبيقاً لذلك فإن مستأجر المنزل الذي يرفض الخروج منه بعد انتهاء مدة عقد الإيجار، ويعرضه للبيع مدعية تملكه، لا يعتبر مرتكبا لجرم إساءة الائتمان.
إلا أن الحكم يختلف فيما لو قام هذا الشخص بانتزاع أبواب المنزل أو نوافذه و باعها، فهذا يعتبر مرتكباً لجرم إساءة الائتمان.
– ويشترط أخيرا أن يكون المال مملوكاً للغير.
فعلة التجريم في إساءة الائتمان هي الاعتداء على مال الغير، ولا يعتبر الشخص كذلك إذا تصرف بماله.
وتطبيقاً لذلك إذا تسلم الوكيل مالاً من الموكل كأتعاب له نظير الجهد الذي سيقوم به لمصلحته بموجب عقد الوكالة، فتصرف الوكيل بهذا المال دون أن يبذل أي جهد لصالح الموكل، فإنه لا يعتبر مسيئاً للائتمان، ذلك أن المال سلم إليه تسليماً ناقلاً للحيازة التامة، أي سلم له ليكون ملكاً له، وقد صار كذلك، وإن كان مشترطاً عند تسليم المال أن يقابله مجهوداً من الوكيل .
– و عندما تتوفر في محل الجريمة صفة المال المادي المنقول المملوك للغير فإنه يصلح لأن يكون محلا للتسليم الذي تقوم به جريمة إساءة الائتمان مهما كانت قيمته ضئيلة أو كبيرة، مادية أم معنوية، مال قيمي أم مال مثلي.
ويقصد بالأموال القيمية الأموال المعينة بالذات، والتي لا يقوم بعضها مقام بعض في الوفاء ولا تبرأ ذمة المدين بها إلا بردها عيناً أو بالذات.
مثل قطعة مجوهرات ذات صفات معينة، أو حصان ذو مواصفات معينة مما يستعمل في السباقات الرياضية.
أما الأموال المثلية فهي الأموال المعينة بنوعها، والتي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء، وتبرأ ذمة المدين بها إذا رد مثلها أو نوعها.
ومثالها النقود والحبوب من صنف واحد.
– وهنا نرى لزاماً علينا الإجابة على التساؤل الذي سبق وطرح في مقدمة هذا الباب، والمتعلق بالعلاقة بين نصي إساءة الائتمان.
يرى بعض الفقه أن إساءة الائتمان لها صورتين:
الصورة الأولى :
نصت عليها المادة 656 وهي عندما يكون محل إساءة الائتمان مالا قيمية،
أما الصورة الثانية
التي نصت عليها المادة 657، فمحل إساءة الائتمان فيها المال المثلي.
ويدعم هذا الرأي أن المادة 657 قد صرحت بأن محلها هو النقود أو أشياء أخرى من المثليات، مما يستفاد منه حصر نطاقها في المثليات، وبالتالي لا تطبق المادة 656 على إساءة الائتمان في شأن المثليات، ولا تطبق المادة 657 على إساءة الائتمان في شأن القيميات.
ويرى اتجاه أخر في الفقه ، بحق، أن إساءة الائتمان لها صورتين نصت عليهما المادتان 656 و 657، و أن النص الأول هو النص الأصلي والعام و الشامل لجرم إساءة الائتمان، أما النص الثاني فيشير إلى صورة خاصة من إساءة الامانة اعتبرها المشرع أقل خطورة من الصورة العادية، ولذلك خصها بعقوبة أخف.
وهذه الصورة تتعلق بالأشياء المثلية التي تسلم العمل معين”، أي على سبيل الوكالة أو المقاولة أو النقل أو الخدمات المجانية، باعتبار هذه العقود تفترض تسليم المال العمل معين.
أما نص المادة 656 فيشمل محله الأموال القيمية والمثلية معا، عدا المثليات التي تسلم لعمل معين التي خصها المشرع بنص المادة 657.
بناء على ذلك فإن تسليم مال مثلي بناء على عقد وديعة يدخل ضمن إطار المادة 656 باعتبار أن تسليم المال هنا ليس لعمل معين، وإنما لحفظه فقط.
وهذا، في الحقيقة، ما يدعم الرأي القائل بأن نص المادة 656 لا يقتصر فقط على الأموال القيمية، بل يشمل أيضا الأشياء المثلية التي تسلم لأي غاية أخرى غير القيام بعمل معين. فلو سلمنا بالرأي المخالف القائل بأن المادة 656 تقتصر فقط على المال القيمي فإن ذلك سيؤدي إلى نتائج غير مقبولة، تتمثل بأن من تسلم مثليات بناء على عقد أخر من العقود المذكورة في المادة 656، كالوديعة أو العارية أو الإيجار، سينجو من العقاب، لأن نص المادة 656 لا يطاله كون المال مثلي، ولا يطاله أيضا نص المادة 657 لأنه لم يسلم إليه لعمل معين.
ثانياً : کون محل إساءة الائتمان قد سلم للفاعل على سبيل الأمانة
لا تقع جريمة إساءة الائتمان إلا إذا كان المال قد سبق تسليمه للفاعل. وهذا الشرط نصت عليه صراحة المادة 656 بعبارة “سلم إليه”، والمادة 657 بعبارة تسلمت إليه”.
فالتسليم المسبق للمال ضرورة القيام هذه الجريمة.
إلا أن هذا التسليم المسبق للمال لا يكفي لوحده بل لا بد أن يتم بناء على أحد العقود الائتمانية المحددة حصرا بالنصوص.
فالمادة 656 تطلبت أن يتم التسليم على وجه الوديعة أو الوكالة أو الإجارة أو على سبيل العارية أو الرهن أو الإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة.
أما المادة 657 فتطلبت أن يتم تسليم المثليات العمل معين”.
لذلك لا بد من تحليل ماهية التسليم في إساءة الائتمان، ثم دراسة العقود الائتمانية المحددة بالنصوص.
أولاً- ضرورة التسليم وشروطه:
لا بد لقيام جريمة إساءة الائتمان من سبق تسليم المال المنقول إلى الفاعل.
ولا يختلف التسليم من حيث طبيعته في جريمة إساءة الائتمان عنه في جريمة السرقة.
فالتسليم يحصل على النحو الذي يتفق مع طبيعة الشيء، ولهذا فقد يكون حقيقياً، فعلياً أو رمزياً، وقد يكون حكمياً، والعبرة في القانون بذات التسليم لا بشكله.
لهذا يستوي في إساءة الائتمان أن يكون المال قد سلم للفاعل تسليماً حقيقياً أو حكمياً.
ويتمثل التسليم الحقيقي في حركة مادية يتخلى بها الحائز عن المال ويخرجه من يده إلى يد الحائز الجديد.
وقد يكون التخلي عن المال فعليا بتسليمه بذاته، أو رمزيا بتسليم ما يشير إليه وما يمكن من الاستيلاء عليه.
ومن أمثلة التسليم الرمزي تسليم الحائز الجديد مفاتيح المخزن أو الصندوق الذي يحتوي على المال المنقول المراد تسليمه.
أما التسليم الحكمي فلا يقتضي نقل المال ولا ما يدل عليه من موضعه، وإنما يتم بتغيير النية وحدها .
ويمكن تصور التسليم الحكمي في حالتين:
الأولى: حين يكون المال موجودة بين يدي مالكه ثم يتصرف فيه للغير تصرفاً ناقلا للملكية، كالبيع مثلا، ويبقيه بالاتفاق مع المشتري في يده باعتباره مستأجرا له أو مودعا لديه.
والحالة الثانية: أن يكون التسليم لليد العارضة فقط ثم يتفق الطرفان على تحويل اليد العارضة إلى حيازة ناقصة.
والمثال على ذلك حالة الضيف الذي يتناول كتاباً من مكتبة مضيفه ليطلع عليه فيعجبه فيطلب استعارته، فيوافقه.
– ولا يشترط في التسليم المنتج لإساءة الائتمان أن يقع الشخص الفاعل، بل يعتد به أيضأ إذا وقع لوكيله أو نائبه أو من يمثله عموماً.
بالتالي تقوم جريمة إساءة الائتمان في حق الشخص الذي تصرف بمال استلمه شخصياً أو استلمه عنه نائبه.
فالزوجة التي تسلمت ما أرسل إلى زوجها على وجه الوديعة أو العارية، ثم قام الزوج بالتصرف بهذا المال، يعتبر مسيئاً للائتمان لأن ما تصرف به سلم إليه في شخص نائبه أو من يمثله.
– ويشترط في التسليم المعتد به في إساءة الائتمان ثلاثة شروط:
أن يكون ناقلا للحيازة الناقصة، وأن يصدر من ذي صفة، وأن يكون مصحوبة بحرية الاختيار والإرادة.
1- کون التسليم ناقلاً للحيازة الناقصة :
والتسليم المقصود هنا هو التسليم بناء على أحد العقود الائتمانية المحددة بالنص، تلك العقود التي تفترض أن يتم بها التسليم الناقل للحيازة الناقصة فقط على المال المسلم، والذي لا يمنح المؤتمن سوى بعض السلطات على الشيء الحساب المسالك.
وبناء على ذلك تنتقي إساءة الائتمان إذا كان المال قد سلم على سبيل الحيازة التامة أو اليد العارضة.
ففي البيع أو المقايضة يتم تسليم المال على سبيل الحيازة التامة، أي على سبيل نقل الملكية إلى المستلم، فلا تقع الجريمة إذا تصرف المستلم بالمال، لأنه تصرف بما يملك.
أما تسليم المال على سبيل اليد العارضة فلا يعطي للمستلم أكثر من اتصال مادي بحت على المال، فإذا تصرف بها فلا يعد سيئا للائتمان بل سارقا، لأن تسليم اليد العارضة لا ينفي الأخذ في السرقة.
ومثاله الضيف والخادم والحمال، فإذا استولى أي من هؤلاء على مابين يديه فهو سارق وليس مسيء للائتمان، لأنه لم يؤتمن على ما تسلمه.
2- صدور التسليم من ذي صفة:
يجب أن يتم التسليم ممن له صفة على المال .
وهذه الصفة تكون لمن يحوز المال حيازة تامة أو ناقصة.
والأصل أن يقع التسليم من مالك المال، وهذا التسليم لا يثور بشأنه أي خلاف.
إلا أن التسليم قد يقع أيضا من سارق المال، فالسارق يحوز المال حيازة تامة، فإذا أودعه لدى أخر أو أعاره إليه أو أجره له، فتصرف هذا الشخص بالمال، يعتبر مسيئا للائتمان.
وحائز المال حيازة ناقصة يعتبر ذا صفة في التسليم.
فالمستأجر للمال الذي أعاره لشخص آخر أو أودعه لديه، فتصرف به الأخير، يعتبر مسيئاً للائتمان.
أما إذا وقع التسليم من شخص ليس بذي صفة على المال، فإن تسليمه لا يعتد به قانوناً.
كما هو الشأن بالتسليم الصادر من صاحب اليد العارضة، كالضيف والخادم والحمال.
وكما رأينا سابقاً فهذا التسليم لا ينفي الأخذ في جريمة السرقة، وبالتالي من يستلم مالا من صاحب اليد العارضة فيتصرف به يعتبر سارقا له وليس مسيئا اللائتمان .
وقد لا يتم التسليم من حائز المال حيازة تامة أو ناقصة، بل يتم بناء على أمر قضائي أو حكم القانون، كما هو الحال بالنسبة لاستلام الولي والوصي والقيم والحارس القضائي.
ولا يختلف الحكم بالنسبة لهؤلاء عن حكم من تسلم المال من المالك أو الحائز.
ولهذا يعد كل منهم مسيئا للائتمان إذا تصرف بالمال الذي تسلمه بموجب إحدى هذه الصفات.
3- صدور التسليم عن اختيار وارادة:
يجب أن يكون التسليم في إساءة الائتمان صادر عن شخص ذي صفة باختياره وبإرادته الحرة حتى يعتد بتسليمه قانوناً .
فمن يتسلم مالاُ من مجنون أو مكره ثم يتصرف به يعتبر سارقاً له وليس مسيئا للائتمان.
بيد أن هذه القاعدة غير مطلقة، فالإرادة المعيبة لنقص الأهلية، دون انعدامها، قد تنقل الحيازة وتمهد لارتكاب إساءة الائتمان.
ويعتد بالتسليم الصادر عن شخص بإرادته الحرة المميزة حتى ولو تم التسليم نتيجة غلط من المسلم، في قيمة المال أو كميته أو في شخص المستلم، أو تم التسليم نتيجة غش وخداع من المستلم، لأن إرادة المسلم، بغض النظر عما شابها من عيب، قد اتجهت فعلا إلى التسليم.
وقد سبق لنا شرح هذه الفكرة عند دراسة أحكام السرقة، وقلنا أن من يتسلم مالاً منقولاً نتيجة غلط وقع به المسلم، فتصرف به، يعتبر مرتكبا للجرم الوارد في المادة 659 من قانون
العقوبات، وهو جرم ملحق بإساءة الائتمان. أما من تسلم مالاً منقولا بخداعه للمسلم، وتصرف به، فيعتبر مرتكب الجرم الاحتيال إذا توافرت بقية أركان الاحتيال.
ثانياً – أن يتم التسليم بناء على أحد العقود المحددة قانوناً.
يجب في التسليم المعتد به في إساءة الائتمان أن يكون مصدره عقدا من عقود الأمانة التي نص عليها المشرع على سبيل الحصر .
وهي كما جاءت في المادة 656 ” الوديعة أو الوكالة أو الإجارة أو العارية أو الرهن أو لإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة “.
أما المادة 657 فتطلبت أن يكون تسليم المثليات” لعمل معين .
فإذا لم يكن العقد الذي حصل التسليم بمقتضاه من هذه العقود، كعقد البيع و عقد القرض وعقد الشركة مثلا، أو كان التسليم لم يحصل أصلا بناء على عقد، فإن التصرف بالمال لا يعد إساءة ائتمان.
وعبارة “لإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة” الواردة في المادة 656 تشير إلى ثلاثة عقود يتسلم بها المدعى عليه المال للقيام بعمل معين وهي المقاولة والنقل وعقد الخدمات المجانية. أما تسليم المثليات في المادة 657 ” لعمل معين ” فتشير إلى ذات العقود الثلاثة السابقة إضافة لعقد الوكالة، لأن هذه العقود تفترض تسليم المال العمل معين.