موقف المشرع السوري من السببية
لم يترك المشرع السوري مسألة السببية دون تقنين ، بل تبنى نصاً عاماً في قانون العقوبات هو المادة 203، أرسی به قواعد السببية في جميع الجرائم المقصودة وغير المقصودة، مقتبسة من نص المادة 41 من قانون العقوبات الإيطالي.
وقد جاء نص المادة 203 تحت عنوان ” اجتماع الأسباب “. ونصها:
“1- إن الصلة السببية بين الفعل و عدم الفعل من جهة وبين النتيجة الجرمية من جهة ثانية لا ينفيها اجتماع أسباب أخرى سابقة أو مقارنة أو لاحقة سواء جهلها الفاعل أو كانت مستقلة عن فعله.
2- ويختلف الأمر إذا كان السبب اللاحق مستقلا وكافيا بذاته لإحداث النتيجة الجرمية. ولا يكون الفاعل في هذه الحالة عرضة إلا لعقوبة الفعل الذي ارتكبه”.
ونظرا لأهمية مسألة السببية في جرائم القتل والإيذاء، فقد أورد المشرع في قانون العقوبات نصاً خاصاً يعالج مسألة السببية في هذه الجرائم، و هو نص المادة 544، الذي جاء تحت عنوان
” القتل والإيذاء الناجمين عن تعدد الأسباب، والقاضي بأنه إذا كان الموت والإيذاء المرتکبان عن قصد أو غير قصد نتيجة عدة أسباب جهلها الفاعل وكانت مستقلة عن فعله أمكن تخفيض العقوبة بالمقدار المبين في المادة 199″
أي اعتبار الفعل شروعة وليس جرم تامة، وعقابه على هذا الأساس.
وباستقراء نص الفقرة الأولى من المادة 203 نلاحظ أنها تتبنى نظرية تعادل الأسباب. إذ اعتبرت أن الفاعل يعتبر مسؤولاً عن النتيجة ولو تضافرت عوامل أخرى مع فعله في إحداثها، سواء كانت هذه العوامل سابقة أو مرافقة أو لاحقة لفعله، وسواء كانت مستقلة عن فعله أو ناتجة عنه، وسواء كان الفاعل يعلم بوجودها أم لا.
فلا تأثير لكل ذلك على قيام رابطة السببية بين الفعل و النتيجة، وعلى مسؤولية الفاعل عن هذه النتيجة .
إلا أن المشرع عاد في الفقرة الثانية ووضع استثناءاً، يتبين منه تبنيه لنظرية السبب الملائم في حالة تدخل عامل ما بين الفعل والنتيجة، فيقطع رابطة السببية بينهما، وينفي مسئولية الفاعل عن النتيجة الحاصلة، إذا توافرت به الشروط التالية:
1- أن يكون لاحقاً لفعل الفاعل
2- أن يكون مستقلا عنه
3- أن يكون كافيا بذاته لإحداث النتيجة الجرمية.
وإذا أردنا تبسيط المسألة يمكننا القول بأن العوامل التي تساهم مع فعل الفاعل في إحداث النتيجة قد تكون سابقة أو مرافقة أو لاحقة له.
فإذا كانت سابقة أو مرافقة له فهي لا تقطع العلاقة السببية بين فعل الفاعل و النتيجة بأي شكل.
أما إذا كان العامل قد أتي لاحقا للفعل، فإنه أيضا لا يقطع رابطة السببية بين الفعل والنتيجة إلا إذا كان مستقلاً عن الفعل، وكافياً لوحده لإحداث النتيجة.
ففي هذه الحالة فقط تنقطع الرابطة، وتنتفي مسئولية الفاعل عن النتيجة الحاصلة، ويعاقب فقط عن الفعل الذي ارتكبه.
فإذا تعرض أحدهم لطعنة بسكين، ثم جاء شخص ثالث و عاجله بطلقة من مسدس أودت بحياته.
فهذا الطلق الناري عامل لاحق لفعل الطعن بالسكين ، و مستقل عنه، أي غير ناتج أو متولد عنه، وكاف لوحده لإحداث الوفاة.
فالطاعن هنا لا يسأل عن الوفاة، بل تقتصر مساءلته على ما ارتكبه من فعل، وهو الجرح أو الإيذاء.
وللتوضيح أكثر، لنفترض أن زید دس السم في طعام بكر، فأكله وشعر بأعراض التسمم فاتجه إلى المستشفى فدهسته سيارة في الطريق ومات على أثر ذلك.
أو تم نقله بسيارة صديقه للمستشفى وفي الطريق انقلبت السيارة نتيجة السرعة ومات بكر.
فهنا يختلف الحكم في الحالتين.
ففي الحالة الأولى، أي الوفاة دهساً، يعتبر الدهس سبباً لاحقاً ومستقلاً وكافية لوحده لإحداث الوفاة.
فيقطع العلاقة السببية بين فعل زيد ووفاة بكر.
أما في الحالة الثانية، فهنا انقلاب السيارة بالرغم من أنه سبب لاحق وكاف بحد ذاته لإحداث الوفاة، إلا أنه ليس مستقلاً عن فعل زيد، بل متولد عنه، فلولا فعل زيد لما أسعفه الصديق بسيارته.
ولذلك لا يعتبر انقلاب السيارة هنا سبباً مستقلاً، ولا يقطع الرابطة السببية بين فعل زيد ووفاة بكر.
أما بخصوص النص الخاص الوارد في المادة 544، فالملاحظ أنه لم يدخل أي تعديل على النص العام، الوارد في المادة 203، بالنسبة للقواعد العامة للسييية السالف شرحها.
بل اكتفي بتعين مقدار العقاب في حالة اقتران الفعل مع عوامل أخرى مستقلة عنه، سابقة أو مقارنة لوقوعه أو لاحقة له، إذا كانت غير كافية لإحداث النتيجة.
ففي هذه الحالة، إذا ما ثبت جهل الفاعل للعوامل الأخرى، يبقى مسؤولاً عن النتيجة الحاصلة، ولكن يعاقب کشارع في ارتكاب الجريمة.
أما إذا ثبت علمه بتلك العوامل فيعاقب على ارتكابه جرمة تامة تطبيقا للمبدأ العام ” تعادل الأسباب ” الوارد في الفقرة الأولى من المادة 203.
وكل ما في الأمر أن الفاعل يستحق تخفيف العقاب لأن أسباب الوفاة أو الإيذاء كانت مجهولة لديه، و غير متولدة عن فعله.
ففي المثال السابق عن جرح زيد لبكر، بفرض أن بكر مريض بالسكر ولم يلتئم جرحه لهذا السبب، فتفاقمت حالته، ومات على أثر ذلك.
فعلاقة السببية بين الجرح والوفاة تبقى قائمة، تطبيقا للمبدأ العام ” تعادل الأسباب ” ، ويبقى زيد مسؤولاً عن الوفاة، حتى ولو لم يكن الجرح هو وحده السبب في الوفاة.
ولكن عقابه يختلف مقداره استناداً لعلمه يمرض بكر أم لجهله به.
فإذا كان يعلم مسبقاً بمرض بكر وأقدم على جرحه، فيعاقب عقاب القتل التام.
أما إذا كان لا يعلم، فيعتبر شارعا في القتل.