مقدمة
ینقل عن الرئیس الأمریكي ابراھام لینكولن قوله : إذا أعطیتني ست ساعات لقطع شجرة فسأقضي الساعة الأولى في شحذ الفأس.
فیما یتعلق بالكتابة القانونیة، فھل نحن معشر المحامین والقانونیین منشغلون بقطع الشجرة دون أن نعطي الوقت الكافي لشحذ الفأس؟
لا شك أننا نعتقد أننا نملك ناصیة الكتابة القانونیة ونستحق التقدیر اللازم لھذه المھارة في الكتابة
وأننا غیر ملزمین باتباع قواعد الكتابة التي یلتزم بھا غیرنا في المجالات الأخرى مثل الأدب
والاعلام.
ولكن في الواقع فان الكتابة القانونیة وكتابات القانونیین تواجه نقدا بأنھا تتسم بالإطالة
والتعقید وصعوبة الفھم.
ولكن ھؤلاء المنتقدین فات علیھم فھم الطبیعة الخاصة للكتابة القانونیة وأولویاتھا.
فحیث أن امتاع القارئ عن طریق جمال اللغة وجزالة اللفظ تمثل الأولویة في الكتابة الأدبیة، فان الأولویة في الكتابة القانونیة تتمثل في اقناع صاحب القرار بتبني حجة الكاتب القانوني (وقد یكون صاحب القرار ھو القاضي أو المحكم أو المتعاقد الآخر في العلاقة التعاقدیة).
ولكن في نفس الوقت فان اختلاف المقاصد والأولویات لا یعني أن القانوني لا یتقید بأي قواعد
في الصیاغة.
وعموماً یمكن تلخیص الإشكالات التي تشوب الكتابة القانونیة في النقاط التالي:
(أ) عدم جود تحلیل قانوني محكم بحیث لا یوضح المستند المقدم ما ھي القاعدة القانونیة
التي تحكم المسألة وما ھو مصدر ھذه القاعدة وكیف تنطبق القاعدة على المسألة.
(ب) استخدام جمل مطولة فیھا عدد كبیر جدا من الكلمات في الجملة الواحدة مما یصیب
القارئ بالملل ویصیب عینیھ بالتعب.
(ت) استخدام جمل ركیكة في الصیاغة وعدم مراعاة قواعد النحو والاملاء الصحیحة.
(ث) الكتابة غیر المرتبة التي تقفز من موضوع لآخر دون وجود ترتیب أو تسلسل منطقي
للأفكار والموضوعات وذلك یصیب القارئ بالإرباك والحیرة.
(ج) التكرار غیر المنطقي لنفس الفكرة عدة مرات بدون مبرر.
(ح) عدم مراعات التناسق في تصمیم المستند وعدم اختیار الخط المناسب أو القیاس المناسب للخط.
في ھذا المقال سأطرح خمس خطوات للوصول لكتابة قانونیة رفیعة ترضي توقعات القارئ
وتحقق مراد الكاتب.
ھذه الخطوات ھي ثمرة بحث في مئات المستندات القانونیة والمذكرات القانونیة التي اطلعت علیھا مع البحث في أمھات الكتب التي تناولت أسس الصیاغة القانونیة سواء
في المراجع العربیة أو الإنجلیزیة.
الخطوة الأولى: مرحلة البحث:
یتخطى العدید من القانونیین ھذه الخطوة ویشرعون في الكتابة مباشرة وھذا خطأ فادح.
ان مرحلة
البحث تمثل الأساس في ھیكل بناء المستند القانوني. فمھما كان المامك بموضوع المسألة فیجب
أن تبدأ بھذه المرحلة وذلك من خلال البحث القانوني.
للقیام بذلك علیك أولا تجمیع الوقائع المؤثرة في المسألة بغرض فھم موضوع المسألة.
لا تكتف فقط بالوقائع التي سردھا الموكل (في حالة المستشار الداخلي فان الموكل ھو الشركة وقد یكون المدیر أو عضو مجلس الإدارة بحسب الحال) بل حاول الوصول لمعرفة شاملة للموضوع من كل جوانبھ. من المھم أیضا أن تضع في الاعتبار أن ما سرده الموكل ھو جزء من الحقیقة ولیس كل الحقیقة.
بناء على الوقائع التي جمعتھا علیك البحث عن القانون الذي یحكمھا.
علیك بطرح ھذه الأسئلة:
• ھل یوجد تشریع یغطي ھذه المسألة؟ ما ھو نوع ھذا التشریع: ھل ھو قانون أم لائحة؟
• ھل ما زالت القاعدة القانونیة ساریة أم تم تعدیلھا أو الغائھا؟
• ھل ھناك تشریع آخر یتقاطع مع القانون الذي توصلت الیھ؟ ما ھي طبیعة ھذا التقاطع؟
ھل ھناك تعارض أو توافق؟ كیف سیخدم أي منھما موقف موكلك؟
• كیف تعاملت المحاكم مع مثل ھذه المسألة في السابق؟ ھل عناك سوابق قضائیة في ھذا
الموضوع؟
ان طرح مثل ھذه الأسئلة كفیل بأن یجعلك على درایة أفضل بالقاعدة أو القواعد القانونیة التي
تحكم المسألة كما تنبھك الى ما یسمى ب ” النقطة العمیاء“.
ان النقطة العمیاء ھو تعبیر مقتبس من قیادة السیارات حیث لكل سائق ” نقطة عمیاء” لا یراھا وھو في مقعد القیادة وإذا كانت ھناك سیارة أخرى في مجال النقطة العمیاء فان ذلك السائق لا یراھا وقد یعمد الى الاتجاه بسیارته في الاتجاه الخاطئ وھو لا یدري.
ان النقطة العمیاء في الكتابة القانونیة ھي النقطة أو النقاط التي لا تراھا بسبب قربك الشدید من المسألة القانونیة أو تحیزك لرأي قانوني أو أسلوب معین.
قد تكون النقطة العمیاء مثلا تفسیر تبنیتھ ولكنھ لا یسري على المسألة المطروحة أو فیه استثناءات غفلت عنھا أو قد یكون فھما ناقصا للوقائع أو القانون.
الخطوة الثانیة: مرحلة التخطیط:
بعد أن تجمعت لدیك فكرة كافیة عن الوقائع وبعد أن حصرت القواعد القانونیة التي تحكمھا تكون
الخطوة التالیة ھي التخطیط للمذكرة القانونیة.
ان مرحلة التخطیط ھي مرحلة جوھریة في عملیة الصیاغة وھي تشبھ عملیة وضع الخرط التي یقوم بھا المھندس فلا یتصور أن یشرع المھندس في بناء المنزل مباشرة بدون أن تكون لدیه خرط ھندسیة توضح عدد الغرف ومساحاتھا.
وبنفس الطریقة ففي مرحلة التخطیط تضع الخطوط العریضة للمذكرة في شكل عناوین وعناوین فرعیة وھي بمثابة عدد الغرف وما فیھا من نوافذ وأبواب تؤدي لغرف أخرى.
في ھذه المرحلة تورد الدفوع التي تخدم موقفك وتلك التي تضعفھ وتضع خطتك للتعامل مع كلیھا. علیك أیضا أن تستوضح الغرض من الكتابة في ذھنك وتحدد الھدف الذي تروجھ من المستند.
عموما علیك بطرح ھذه الأسئلة:
• ما ھو الھدف من كتابة ھذا المستند أو المذكرة؟
• من ھو القارئ المستھدف؟ من ھو القارئ الرئیسي والقارئ الفرعي للمستند؟
• ما مدعى معرفة القارئ أو القراء المستھدفون بالموضوع؟ ما ھي درجة استیعابھم للمسألة التي سأطرحھا؟
• ما ھي توقعات القراء؟ ھل یتوقعون لغة رسمیة رصینة أو لغة سھلة ومختصرة؟ ما ھي درجة الرسمیة المطلوبة؟
• ھل لدي تجربة سابقة مع ھذا القارئ؟ ماذا تقول التجربة وكیف استفید منھا في ھذا المستند؟
ان طرح ھذه الأسئلة سیعینك على تحدید درجة التفاصیل والشرح و”نغمة” المستند من حیث
درجة الرسمیة واختیار الأسلوب الذي یتناسب مع الغرض ومع القراء المستھدفین.
بعد أن تضع النقاط فإنني أنصح بنقلھا في ورقة بیضاء لعمل الربط بین النقاط والترتیب في السرد.
الخطوة الثالثة: مرحلة الصیاغة:
الآن أنت مسلح بما تحتاجه لبدء الكتابة بعد أن جمعت الوقائع وحصرت القواعد القانونیة ثم جھزت خطة الكتابة. الآن علیك بالتنفیذ.
في أثناء الصیاغة قم باتباع الخطة التي رسمتھا ولكن لا تخش أن تحید عنھا إذا لزم الأمر.
علیك بعمل تحلیل قانوني للوقائع بحیث تنزل علیھا القواعد القانونیة التي حصرتھا لكي تصل الى النتیجة التي ترغب فیھا.
علیك بتقدیم الدفوع المستمدة من التحلیل القانوني والتي تدعمھا الوقائع الواردة مع بیان مصدر القاعدة القانونیة التي تستند علیھا والأدلة التي تستند الیھا.
لكي تحصل على صیاغة فعالة الیك النصائح التالیة:
(أ) شكل المستند لا یقل أھمیة عن مضمونھ. استخدم التنسیق المناسب ویشمل ذلك نوع
الخط والحجم.
بالنسبة للمذكرات المقدمة للمحاكم فإنني أنصح بقیاس 16 وخط من السبب في ذلك أن ھذا النوع من الخط یتسم بالرسمیة .Times New Roman نوع وسھل القراءة.
من المھم التناسق في جمیع صفحات المستند بحیث تستخدم نفس النوع من الخط ونفس القیاس مع إمكانیة زیادة حجم الخط للعناوین الجانبیة.
(ب) احرص على ترك مساحات بیضاء بین الفقرات لأنھا تعمل بمثابة استراحة قصیرة للعین.
بدون جود مساحات بیضاء فان عین القارئ ستصاب بالتعب بسرعة ویؤدي ذلك للملل ومن ثم التوقف عن القراءة.
(ت) الترقیم للفقرات فكرة جیدة ویستخدمھ المحامون في المذكرات والقضاة في صیاغة الأحكام في معظم النظم القانونیة التي تتبع نظام القانون العام.
والسبب في ذلك ھو تسھیل الإشارة لرقم الفقرة بصورة أكثر دقة مع تفادي التكرار. ان ترقیم الفقرات في المذكرات القانونیة غیر منتشر في الدول العربیة ولكنھ أسلوب فعال في الكتابة.
(ث) لكي تجعل الجملة سھلة الفھم التزم ما أمكن بالترتیب التالي: فعل – فاعل – مفعول به.
مثلا: اشترى المدعي العقار رقم 50 .
ان ھذا الترتیب لا یجعل مجالا للشك في تحدید ما الذي حدث ومن قام بالفعل وعلى من وقع الفعل كما أنك تستخدم أقل عدد ممكن من الكلمات ( 4 كلمات).
ھذا الأمر تزداد أھمیته في صیاغة العقود حیث یكون المحك فیھا ھو تحدید من یقوم بالالتزام.
لكن جرب المثال التالي: العقار الذي تم شراؤه من قبل المدعي كان یحمل الرقم 50 ( 10 كلمات). ھل رأیت الفرق؟
(ج) اكتب في جمل قصیرة.
ان الجمل الطویلة كما ذكرت تتعب العین و”تتوه” القارئ. یمكن تحقیق ذلك من خلال حذف أي كلمات تفصل بین الفعل والفاعل وجعلھا في جمل منفصلة إذا لزم الأمر.
(ح) علیك مراعاة قواعد الاملاء والنحو وخاصة تطابق الفعل مع الفاعل من حیث العدد والتأنیث والتذكیر وقواعد الھمزة وخلافھ. علیك أیضا مراعاة الاستخدام الصحیح لعلامات الاعراب والترقیم مثل النقطة والشولة والنقطتین.
(خ) تجنب استخدام الأفعال المبنیة للمجھول ما أمكن لأنھا لا توضح الفاعل كما أنھا تزید من عدد الكلمات في الجملة.
بعد طرح الدفوع التي تدعم موقفك قد یكون من المناسب التفكیر في الدفوع التي قد یتقدم بھا
الطرف الآخر والتي تتعارض مع موقفك وتقوم بتفنیدھا أو الرد علیھا.
في المستندات التي لا تحتوي على خصومة واضحة یمكن الإشارة للجانب المعاكس من المسألة التي تطرحھا وتفندھا أو ترد علیھا.
بالنسبة لصیاغة العقود فیجب أن تكون الصیاغة تحدد أطراف العقد بدقة وتحدد الالتزامات التي
سیقوم بھا كل طرف من أطراف العقد بصورة لا لبس فیھا مع تجنب الألفاظ التي تحمل التأویل
لأكثر من معنى.
من الشائع الإشارة لأطراف العقد بعبارة “الطرف الأول” و”الطرف الثاني”، ولكن مثل ھذه الصیاغة مرھقة للعین للتقارب الشدید بین العبارات وأقترح استبدالھا بعبارات ممیزة لأحد طرفي العقد مثل عبارة ” البائع” وعبارة ” المشتري” وذلك بسبب أن العقد غالباً سیحتوي على مشتري واحد وبائع واحد كما لا یوجد تشابه بین العبارتین أو استخدام عبارة “الموظف” و “الشركة” في عقد العمل بدلاً من الطرف الأول والطرف الثاني.
وقد یكون من المناسب طرح ھذا السؤال: لو عرض ھذا البند أمام المحكمة فكیف سیحكم القاضي بموجبه؟
ما ھو التفسیر المعاكس الذي یحتملھ ھذا النص وكیف یمكنني أن أتجنبه؟
ان طرح مثل ھذه الأسئلة سیساعدك على احكام الصیاغة وتجنب العبارات الفضفاضة أو الغامضة.
الخطوة الرابعة: مرحلة المراجعة
بعد أن قمت بصیاغة المسودة الأولى من المستند حان وقت المراجعة.
قد یكون من المناسب طباعة النسخة وقراءتھا بصوت مسموع لكي ترى وقع الكلمات وتناسق الجمل.
في ھذه المرحلة علیك بمراجعة المسودة ومقارنتھا بالخطة التي وضعتھا في المرحلة الثانیة للتأكد من تغطیة جمیع النقاط التي ترغب في تغطیتھا أو معرفة التعدیلات التي قمت بھا على الخطة.
ثم بعد ذلك علیك بمراجع التسلسل بین الأفكار والترابط بین المواضیع بحیث تحتوي كل فقرة على فكرة واحدة وإذا وجت أن ھناك فقرة تحتوي على أكثر من فكرة فربما من الأفضل تقسیم الفقرة الى فقرتین.
علیك بحذف كل الكلمات الزائدة والعبارات المكررة في ھذه المرحلة لأنھا “تأكل” من جودة المستند.
قد تكتشف الحاجة لإعادة ترتیب الفقرات أو حذف بعضھا أو إضافة توضیحات أو ادراج بیانات. علیك الاھتمام بصحة الأرقام والتواریخ والأسماء في ھذه المرحلة.
كما أن علیك التأكد من صحة الإشارة الى مصادر القواعد القانونیة التي تستند الیھا.
إذا كنت تستند الى مادة في القانون فمن الأفضل كتابة المادة كاملة دون الاكتفاء بالرقم فقط وذلك في المرة الأولى التي تشیر فیھا للمادة.
قد ترى أن فقرة تتعارض مع أخرى وتقرر إزالة ھذا التعارض بمزید من الایضاح أو حذف أحداھما.
في ھذه المرحلة یكون التركیز على الاجادة والتحسین. القاعدة الأساسیة ھي:
خیر الكلام ما قل ودل.
الخطوة الأخیرة: مرحلة إعادة المراجعة
ھذه ھي الخطة النھائیة ولكنھا قد تكون في عدة مراحل.
من الأفضل أن تبدأ مرحلة إعادة المراجعة
بعد أخذ استراحة من المسودة ویفضل في الیوم التالي وذلك بغرض اتاحة الفرصة للنظر للمستند
بعین جدیدة.
تزداد أھمیة ھذه المرحلة إذا كنت قد قمت بعمل تعدیلات في المرحلة السابقة لأن أي تعدیلات تحتاج مراجعة شاملة للمستند لمعرفة تأثیر ھذه التعدیلات على باقي المستند.
قد یكون من المفید عرض المستند على شخص تثق به لیعطیك رأیاً موضوعیاً ویجب أن یكون ھذا الشخص من غیر أفراد الفریق الذي یعملون على القضیة لكي تكتمل الفائدة.
والسبب في ذلك أن الأشخاص الذي یعملون معك في نفس المسألة في الغالب قد تأثروا بنفس الأفكار التي تحملھا ومن الصعب علیھم تقدیم رأي مستقل.
یمكن تكرار ھذه الخطوة عدة مرات لأن كل مراجعة تزید من جودة المستند ومتانته.
الخلاصة
على الرغم من الخصوصیة التي تتمتع بھا الكتابة القانونیة الا أنھا كغیرھا من أنواع الكتابة مبنیة
على أسس مستمدة من العرف وقواعد المھنة.
ان اتباع استراتیجیات فعالة في الكتابة من الوسائلالجوھریة لإجادة أصول الصیاغة.
وعلى الرغم من أن الخطوات الموضحة في ھذه الورقة لا تغطي جمیع الحلول ولكنھا تحمل أساسا صلباً یمكن أن تبني علیه بما یتناسب مع طبیعة الكتابة والغرض منھا وطبیعة عملك ومیولك الشخصیة.
في نھایة الأمر فان الكتابة عمل یتسم بالخصوصیة ولكل منا بصمته التي یصعب تكرارھا.
ختاما أرجو أن یساعدك ھذا المقال في شحذ فأسك أیا كان نوعھا!
أیمن عبد الرحمن خیر