مقدمة عن التفتيش كإجراء لجمع الأدلة لدى قاضي التحقيق
يهدف التفتيش إلى البحث عن الأدلة الجرمية وما نجم عن الجريمة وكل ما يفيد في كشف حقيقتها ومعرفة هوية مرتكبيها ومكان وجودهم، أي البحث عن السر الذي يتعلق بالجريمة، وهو السر الذي يحتفظ به الشخص لنفسه ويحرص على عدم إطلاع أعز الناس إليه أحيانا، فمن باب أولى أنه يحرص على عدم اطلاع السلطة عليه.
فالتفتيش من إجراءات التحقيق الابتدائي ينطوي على مساس بحرية الأشخاص أو انتهاك لحرمة منازلهم يقوم به القاضي حين تتوافر لديه الأدلة على وقوع الجريمة ونسبتها إلى شخص معين. فالغرض من التفتيش هو العثور على الفاعل حين يكون مختفية عن وجه العدالة، أو ضبط الأشياء الأسلحة والأوراق والأدوات وغيرها التي استعملت في ارتكاب الجريمة أو نتجت عنها وتكون ذا فائدة في كشف الحقيقة.
فهو يمس حق المتهم في السرية، وهو من حقوق الحرية الشخصية التي يتعين كفالتها، لذلك فإن المشرع أجاز المساس بهذه الحرية عن طريق التفتيش، بعد أن أخضعه لضمانات تتمثل إما في شخص القائم به أو في عدة شروط يجب أن تتوافر فيه حتى يكون صحيحة.
1- السلطة المختصة بالتفتيش
لأن التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق الابتدائي، فإن سلطة التحقيق هي التي تملكه بحسب الأصل فقاضي التحقيق يملك حق إجراء هذا العمل التحقيقي سواء كان الجرم مشهودة أم غير مشهود، وسواء كان جناية أم جنحة وفي جميع الأمكنة، فله أن يفتش المدعى عليه أو غيره.
وقد نصت المادة (90) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه :
“مع مراعاة الأحكام السابقة يحق لقاضي التحقيق أن يقوم بالتحريات في جميع الأمكنة التي يحتمل وجود أشياء فيها يساعد اكتشافها على ظهور الحقيقة” .
كما له أن ينيب عنه في ذلك أحد قضاة الصلح في منطقته أو قاضي تحقيق أخر في الأمكنة التابعة القاضي المستتاب أو أحد موظفي الضابطة العدلية.
أما النيابة العامة والضابطة العدلية، فيجوز لهما استثناء في حال كانت الجريمة جناية مشهودة تفتيش المدعى عليه ومنزله ومكان وقوع الجريمة.
أما إذا كانت جنحة مشهودة فليس لهما سوى تفتيش المقبوض عليه .
2- شروط التفتيش
كما ذكرنا، فإن التفتيش يؤدي إلى المساس بحق الشخص في الحفاظ على أسراره عن طريق تحري شخصه أو مكانه الخاص.
فجوهر التفتيش كإجراء من إجراءات التحقيق هو في البحث عن أدلة الجريمة موضوع التحقيق وكل ما يفيد في كشف الحقيقة من أجل إثبات ارتكابها أو نسبتها إلى المتهم .
فما لم توجد هذه الأدلة فلا محل للتفتيش. لذلك ينبغي أن تتوافر في التفتيش شروط معينة تمليها طبيعة هذا الإجراء وطبيعة الحق الذي يمسه. وقد نصت المادة (89) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه:
“1- لا يجوز دخول المنازل وتفتيشها إلا إذا كان الشخص الذي يراد دخول منزله وتفتيشه مشتبه فيه بأنه فاعل جرم أو شريك أو متدخل فيه أو حائز أشياء تتعلق بالجرم أو مخف شخصا مدعی
2- إن دخول القاضي أحد المنازل في حال عدم توفر الشروط المذكورة آنفا يعتبر تصرف تعسفية من شأنه أن يفسح المجال للشكوى من الحكام”.
من هذه المادة يتبين أنه لابد من توافر الشروط الآتية حتى يكون التفتيش صحيحاً :
1- أن تكون هناك جريمة وقعت وأن تكون هذه الجريمة من نوع الجناية أو الجنحة.
أما الجرائم التي يمكن أن تقع مستقبلا ولو قامت الدلائل الجدية على أنها ستقع بالفعل، فلا تخول التفتيش.
كذلك لا يجوز التفتيش في المخالفات لأنها ليست على درجة من الخطورة ولا تبرر انتهاك حرمة مساكن الناس .
2- لابد من توافر أمارات أو دلائل كافية على نسبة هذه الجريمة إلى شخص معين، أي أن يكون مظنونة فيه بأنه فاعل الجريمة أو شريك أو متدخل فيها أو حائز أشياء تتعلق بالجرم
3 – إن التفتيش هو أحد إجراءات التحقيق الابتدائي، لذلك لا يمكن مباشرته بحسب الأصل سوی من سلطة التحقيق، فلا يجوز للنيابة العامة أو لموظفي الضابطة العدلية إجراؤه إلا في الأحوال الاستثنائية أي إذا كان الجرم مشهودة، أو بناء على إنابة من سلطة التحقيق.
4- أن يكون الهدف من التفتيش هو ضبط أشياء تتعلق بالجريمة أو تفيد في كشف الحقيقة، أي أن تكون هناك فائدة ترجى من وراء التفتيش، كأن تقوم قرائن على وجود أشياء أو آثار تتعلق بالجريمة في حيازة الشخص أو في داخل المكان المراد تفتيشه.
فإذا كانت الجريمة من جرائم الذم، أو شهادة الزور، أو جنح المرور، لا يكون التفتيش مسوغ ، لأنه لا يكون بهذا الوصف لازمة للتحقيق ومسوغ للمساس بحرية المواطن وحرمة مسكنه، بل إجراء تحكمية باطلا. وتقدير الفائدة التي ترجى من التفتيش هو أمر متروك لسلطة التحقيق تحت رقابة محكمة الموضوع .
3- محل التفتيش
يرد التفتيش حيثما توجد الأسرار الخاصة، فلا يعد تفتيشأ مجرد الاطلاع على أشياء معلنة للجمهور . فمحل التفتيش إذن هو مستودع السر، وهذا يتمثل في الشخص ذاته أو في مكانه الخاص.
أ- في الشخص نفسه :
يمكن أن يخبئ المخدرات في معدته بأن يبتلعها ضمن عبوات معدنية صغيرة أو بلاستيكية، كما يمكن أن يخبئ المجوهرات المسروقة بالطريقة نفسها، أو السلاح الذي يربطه بجسده، كما أن دمه يمكن أن يكون محلا لوجود المواد المسكرة التي تناولها.
. ب- الأشياء المنقولة :
يمكن أن يخبئ في ثيابه المخدرات والأسلحة والأشياء المسروقة والأدوات الجرمية الصغيرة والرسائل لأنها قد تتضمن معلومات كثيرة تفيد في الكشف عن الجريمة ومعرفة مكان وجود مرتكبيها. كما يمكنه أن يخبئ هذه الأشياء في الحقائب التي يحملها أو في سيارته أو ضمن الثلاجة أو الصناديق .
ج- المنازل :
المقصود بالمنازل الأماكن التي يهدأ فيها الشخص لنفسه ويودعها أسراره. فالمنزل هو المكان المعد لسكن الشخص أو المخصص لإقامته، سواء كان ذلك على نحو دائم أم مؤقت أو موسمي.
فهو كل مكان يمارس فيه الشخص مظاهر حياته الخاصة ويخلو فيه إلى نفسه ويعتبره مستودع أسراره، ولا يباح دخوله إلا بإذنه. ويدخل في مفهوم المساكن، الأماكن المخصصة للسكن ليلاً ونهارا مهما طالت المدة أو قصرت كالبيوت الصيفية والشاليهات على شواطئ البحر، والغرف التي يقيم فيها الحارس والبواب.
ولا يشترط أن يكون البيت مبنية من الحجر أو الاسمنت، ومن الممكن أن يكون من الخشب أو الشعر أو القماش كالأكواخ والخيام. ويشمل المسكن كل ما ألحق به بحيث يعد جزءا لا يتجزأ منه كالأسطح والحدائق الملاصقة له والمشتركة معه في المدخل، وكذلك الأقبية المتصلة بالمنزل والمعدة الحفظ مستلزمات المنزل والمؤونة.
كما يعد من ملحقات المنزل سيارة صاحب المنزل ومرآب هذه السيارة.
كذلك حال غرف الفنادق المستأجرة شهرية أو سنوية، فإنها تعد بمنزلة البيوت بالنسبة لمستأجريها. كما تمتد الحماية إلى الأجزاء من المحلات التجارية التي اتخذ منها أصحابها مكانة المبيتهم وحفظ أسرارهم، ومثلها عيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمهندسين.
أما المعابد والمقاهي والمطاعم ودور السينما والمتاجر والمكتبات العامة والصيدليات والمشافي العامة أو الخاصة، فتعد بحكم المساكن الخاصة في الأوقات التي لا يباح للجمهور دخولها أثناءها، وتأخذ حكم الأماكن الخاصة في تطبيق أحكام التفتيش.
فمجرد إغلاق الباب في المحل العام حين يحين وقت إغلاقه، يمنحه الحصانة للمسكن المصون، إلا في حالة الجرم المشهود أو طلب صاحب المحل أو أمر قضائي .
4- تنفيذ التفتيش
أ- حسب ما نصت عليه المادة 91 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فإن التفتيش يجري بحضور المدعى عليه إذا كان موقوفاً، فإن أبي الحضور أو تعذر ذلك أو كان موقوفا خارج المنطقة التي يجب أن يحصل التفتيش فيها، جرت المعاملة بحضور وكيله إذا كان الفعل جناية.
وإذا لم يكن له وكيل أو لم يمكن إحضاره في الحال، عين قاضي التحقيق وكيلا عن المدعى عليه لحضور هذه المهمة.
أما إذا لم يكن المدعى عليه موقوفاً وكان موجودة في محل التفتيش، فيدعى إلى حضور هذه المعاملة ولا ينبغي إعلامه بها مقدماً، وإذا لم يكن المدعى عليه موجودة يجري التفتيش بحضور وكيله إذا كان الفعل المكون للجريمة جناية، فإن لم يكن له وكيل عينه له قاضي التحقيقه.
واذا جرى التفتيش في منزل شخص غير المدعى عليه، فيدعى هذا الشخص لحضور المعاملة.
فإذا كان غائبة، أو إذا تعذر عليه الحضور، فيجري التفتيش بحضور اثنين من أفراد عائلته الحاضرين في مكان التفتيش، وإذا كان ذلك غير ممكن، يجري بحضور شاهدين يستدعيهما قاضي التحقيق
ب – نصت المادة (94) الفقرة 2 من القانون نفسه على أنه:
“إذا كان المفتش أنثى وجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثي تندب لذلك“.
وهذه قاعدة تتعلق بالنظام العام، لذا فإن مخالفتها يترتب عليها بطلان التفتيش وما قد يسفر عنه من أدلة.
فالمشرع حين أقر مبدأ تفتيش الأنثى بواسطة أنثى، إنما أراد به تفتيش المواضع الجسمانية التي لا يجوز لرجل الاطلاع عليها، لأنه يخدش حياء المرأة المساس بها.
أما تفتیش ما في يدها أو ما تحمله معها من أشياء فهو جائز من قبل مفتش ذكر.
وعلى قاضي التحقيق أن يعلم النائب العام بانتقاله إلى موقع الجرم أو بقيامه بالتفتيش، ويصطحب معه كاتبه لوضع محضر بإجراء التفتيش.
ج- لم يورد المشرع نص يوجب فيه إجراء التفتيش في وقت معين، لذلك يجوز إجراؤه في أي وقت من ساعات النهار أو الليل.
وبما أن التفتيش هو عملية بحث، فيفضل أن يتم في ضوء النهار كلما أمكن ذلك، لأن ضوء النهار يساعد على إظهار الأمور بدقة وبسرعة، فكثيرا ما يخدع التفتيش صاحبه إذا تم ليلاً. ولكن إذا بدأ بالتفتيش نهار ولم ينته حتى هبوط الليل، جاز الاستمرار فيه.
كما يجوز إجراء التفتيش ليلا في حالة الجناية المشهودة لأن الانتظار قد يؤدي إلى ضياع الأدلة.