مقدمة عن الاعتراف
كان للاعتراف شأن كبير في نظم التحقيق القديمة. ففي عهد الأسلوب الاتهامي كان للاعتراف مقام مرموق بين البينات، غير أنه بقي بينة غير كافية، أي لابد من أن ترافقه بينة أخرى من أجل اعتماده سببة للحكم.
أما في ظل الأسلوب التفتيشي، فقد بلغ الاعتراف الأوج وأصبح سيد البينات. وقد أشاد الفقيه Jousse بشأن الاعتراف فقال:
“ليس أعدل من عقوبة تطبق على شخص يعترف بمحض إرادته ودون أي تعذيب بأنه الفاعل الحقيقي“.
غير أن كثيرا من الاعترافات جاءت مكذبة لهذا الزعم .
ويعرف الاعتراف بأنه:
إقرار المدعى عليه على نفسه بكل أو ببعض ما نسب إليه من وقائع جرمية.
فالفاعل يقر بأنه ارتكب جرم، أي يشهد على نفسه بأن ما تدعيه النيابة العامة أو المدعي الشخصي صحيح”.
ويجب الحذر من سوء التأويل فيما يسمى بالاعتراف الضمني أو السلبي، والذي هو في الحقيقة من جملة القرائن وليس اعترافاً.
مثاله سكوت المتهم عند تقرير أمر في حضوره يؤذيه وعلى مسمع منه، في حين كان عليه إنكاره أو نفيه أو تقديم إيضاح عنه، وللقاضي تقدير هذه الظروف مع الاحتراس من سوء التأويل.
والاعتراف قد يكون كاملاً : وهو إقرار المدعى عليه بكل ما نسب إليه.
وقد يكون جزئياً : أي أن يقر المدعى عليه ببعض ما نسب إليه، كأن يعترف باقترافه جريمة الضرب دون القتل، أو بارتكاب الفعل دون قصد، أو دفاعا عن النفس… الخ.
وقد يكون الاعتراف قضائياً : أي حين يصدر عن المتهم في مجلس القاضي، وتكون له قوة ثبوتية، لأن الفاعل يشهد على نفسه وهو مدرك خطورة قوله.
وقد يكون غير قضائي : وهو ما يصدر خارج مجلس القضاء، ويثبت إما بموجب مستند خطي كإدراجه في محضر منظم من قبل رجال الضابطة العدلية أو في كتاب موقع من المدعى عليه نفسه، واما أمام الشهود، ويقام عندها الدليل عليه بالشهادة إذا كان موضوع الدعوى يقبل الإثبات بهذه البينة.
ويكون الاعتراف بسيطاً إذا أقر المدعى عليه بالواقعة الجرمية وحدها، ويكون موصوفاً إذا زاد عليها أفعالاً أو ظروف للتخفيف من مسؤوليته أو إزالة الصفة الجرمية عن فعله.
أ- شروط الاعتراف
لابد في الاعتراف حتى يكون صحيحا من أن تتوافر فيه ثلاثة شروط:
1- أن يكون صريحة واضحة لا لبس فيه ولا غموض، دون أن يحتمل تأويلا.
فسكوت المدعى عليه لا يعد إقرارة منه بما نسب إليه، لأنه لا ينسب إلى ساکت قول. وكل دليل يحمل في طياته شكا أو شبهة أو احتمالاً يكون مصيره الإهماله، وأن يكون هذا الاعتراف مطابقاً للحقيقة، لذلك يترتب على القاضي أن يتحرى في أمور الاعترافات التي تصدر عن المتهمين، وعن الدافع الذي ألجأهم إلى الإدلاء بها وضرورة مراعاة توفر التوافق بين الاعتراف وبين الأدلة الأخرى في الدعوى.
فكثيرا ما يعترف شخص بجريمة قتل مثلا ولكنه إذا ما نوقش في اعترافه اتضح كذبه من اختلاف الطريقة التي يدعي ارتكاب جريمة القتل بها عما تحققه الطبيب الشرعي من معاينة الجثة.
2– أن يكون صادراً عن شخص يتمتع بالأهلية وعن إرادة حرة.
فإذا تبين أن المدعى عليه غير مميز بسبب مرض عقلي أو مجنون. فلا يكون لاعترافه أي قيمة ثبوتية. فيجب أن يكون الاعتراف صادرة عن إرادة حرة، أي بغير عنف أو إكراه أو تهديد أو تعذيب مما يؤثر في حرية المتهم في الاختيار بين الإنكار والإقرار .
فكل اعتراف أدلى به صاحبه تحت تأثير التعذيب أو الإكراه بنوعية المادي والمعنوي يكون مصيره الإهمال لأن صاحبه يكون في هذه الحالة معيب الإرادة مضطرب التفكير لا يدرك نتائج ما أدلى به من أقوال. فلكي يكون الاعتراف صحيحة يجب أن يكون المعترف مدركة لكل ما يحيط به ولكل ما يترتب على اعترافه من نتائج.
والأخذ بالاعتراف، وكونه صحيحة غير مشوب بشائبة الضغط، من المسائل التقديرية الخاصة بقضاة الموضوع، ولا تدخل تحت تمحيص محكمة النقض.
3- يجب أن يكون الاعتراف صادرة عن المدعى عليه بالذات
لأن الاعتراف حق شخصي، فاعتراف الوكيل عن موكله لا يعد دليلاً من أدلة الإثبات، فإذا أقر الوكيل في أحد دفوعه بأن موكله هو الذي ارتكب الجريمة المدعى بها أو شارك فيها، فإن لهذا الأخير أن ينكر اعتراف وكيله. كما أن اعتراف الولى لا يعد اعترافا للحدث، ولا يؤخذ بإقراره.
4- أن يكون الاعتراف مستنداً إلى إجراءات صحيحة،
فإذا كان ثمرة إجراءات غير قانونية وباطلة، فيع باطلاً ولا يؤخذ به كدليل في الإثبات ولو كان هذا الاعتراف صادقا.
كأن يصدر الاعتراف نتيجة الاستجواب باطل جرى من أحد موظفي الضابطة العدلية، أو جرى تحليف المتهم اليمين عند استجوابه.
لكن الاعتراف لا يكون باطلاً إلا إذا جاء متصلاً بالإجراء الباطل ومتأثرة به، فإن كان مستقلا عنه جاز التعويل عليه، ويعود تقدیر اتصاله أو استقلاله المطلق تقدير محكمة الموضوع حسبما يتكشف لها من ظروف الدعوى وملابساتها.
قيمة الاعتراف:
إذا صدر الاعتراف مستكملاً شروط صحته، فيعد عندئذ بينة كغيره من البينات متروكاً أمر تقديره للقاضي، بشرط أن يكون المعترف مدركاً نتائج اعترافه، وأن يدلي به بصورة حرة.
وللقاضي سلطة مطلقة أن يأخذ بالاعتراف الصادر عن المتهم والذي أدلى به سواء في مرحلة التحقيق الأولي أو التحقيق الابتدائي أو في جلسة المحاكمة طالما أنه اطمأن إلى صحته واقتنع بمطابقته للحقيقة.
أما اعتراف مدعى عليه على آخر فهو استدلال عادي تقدره المحكمة ولو أنكر هذا الأخير ما نسب إليه، ولها أن تستنتج منه النتائج المنطقية، لأن الحكم في الموضوع وتقدير البينات متعلق بوجدان قاضي الموضوع، ولا رقابة لمحكمة النقض عليه.
ويسمى هذا الاعتراف في التعامل القضائي بالعطف الجرمي.
وقد قررت محكمة النقض:
“أن عطف الجرم من منهم على آخر ليس بالدليل القاطع ولا بالبينة المثبتة للواقعة وإنما مجرد قول يحتاج إلى دليل على حجيتها”.
والمعترف قد يرجع عن اعترافه ولو كان واقعاً أمام المحكمة.
وللقاضي عندئين حق تقدير قيمة هذا الرجوع، فإما أن يقره أو يرفضه حسب قناعته.
وفي جميع الأحوال، فإن القاضي هو الذي يحدد قيمة الاعتراف وفق تقديره، فإما أن يقتنع به ويستند إليه في الحكم بالإدانة، وإما أن يرفضه ويتجرد من قيمته كدليل، وهو يخضع لسلطته التقديرية التي تفترض تحديد دلالته وبواعثه سواء أكان الاعتراف قضائية أو غير قضائي.
أي إن للقاضي سلطة تقديرية في أن يأخذ باعتراف المتهم متى اطمأن إليه أو يأخذ بجزء منه.
فالاعتراف قابل للتجزئة، والقاضي غير ملزم بالأخذ باعتراف المتهم بنصه، بل له في سبيل تكوين قناعته أن يجزئ الاعتراف ويأخذ منه ما يراه مطابقة للحقيقة، وأن يعرض عما يراه مغايرة لها. ولا معقب على القاضي في ذلك طالما أنه قد بني قناعته بالاعتراف على أسباب مقبولة عقلا ومنطقا.
كما يجب أن ينظر إلى الاعتراف بالحذر الشديد، لأنه قد يكون دليلاً ضعيفة لاحتمال اعتراف الظنين باقتراف الجرم المسند إليه وتحمل مسؤوليته تخليصأ لغيره أو في مقابل نفع يأمله أو دفع ضرر يخشاه.
أو أن يكون ما جاء في الاعتراف بعيداً عن الواقع أو ليس من شأنه في الحقيقة أن يؤلف العنصر الجنائي.