أولاً : المولد والنشأة:
– الاسم : عبد الرزاق أحمد السنهوري.
– تاريخ ومكان الولادة : ۱۸۹۰/۷/۱۱ مدينة الإسكندرية.
يقول السنهوري عن مولده ونشأته:
… مات أبي وأنا في السادسة من عمري، وكان موظفاً صغيراً في مجلس الإسكندرية، ولا أعرف ظروف وفاته، وكان لي من الإخوة والأخوات سبع، وأمي امرأة طيبة القلب، ورثت عنها طيبة القلب، وقد بقيت منقطعة تربي أولادها إلى أن ماتت وأنا في سن الأربعين، ولي من الأولاد بنت واحدة فقط هي (نادية) لم أنجب سواها، وولد ليس كغيره من الأبناء هو القانون المدني، وقد ترجم لذلك شعراً بقوله:
خلقت ينتا في حياتي ثم خلقت الولد
فالبنت «نادية، أتتني و بعد يأس وكد
وإذا سألت عن الوليد أباه لم يعوزك رد
ولدي هو «القانون» لم أرزقه إلا بعد جهد
وقد أدخل بعد ذلك مدرسة راتب باشا الابتدائية، ثم مدرسة العباسية الثانوية، فتخرج فيها سنة ۱۹۱۳ وكان ترتيبه الثاني على جميع طلاب القطر المصري، ثم انتقل من الإسكندرية إلى القاهرة، ودخل مدرسة الحقوق سنة 1913 وتوظف كي يعين نفسه مادياً في مراقبة الحسابات لدى وزارة المالية، واستمر في دراسة الحقوق فحصل على الليسانس فيها سنة ۱۹۱۷، وكان الأول على جميع الطلاب، وقد عين فور تخرجه وكيلاً للنائب العام.
وفي سنة ۱۹۲۰ عين مدرساً للقانون في مدرسة القضاء الشرعي، وكان معه كوكبة من الأساتذة في ذلك الحين منهم الفقيه أحمد إبراهيم بك، وعبد الوهاب خلاف، وعبد الوهاب عزام، وأحمد أمين وغيرهم…
وكان من تلاميذه الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، وفي تلك السنة سافر إلى فرنسا في بعثة دراسية للحصول على شهادة الدكتوراه في الحقوق، وكانت الدراسة في فرنسا في الفترة من
۱۹۲۱/۸/۱۲ إلى ۱۹۲۹/۵/۹ يقول عنها في مذكراته (اليوم هو يوم ۱۲ أغسطس، هو اليوم الأول في السنة السابعة والعشرين من عمري، وقد ركبت فيه البحر قاصدا أوربا لأول مرة، – ماذا ينتظرني من الحوادث في هذه المرحلة الطويلة؟ لا أدري ما يخبئه لي الغيبا! ولكني أرجو الله توفيقاً).
وقد حط رحاله في مدينة (ليون) وهو مثقل بالطموح إلى مستقبل زاهر لشخصه ولأمته، كتب يصور ما يجول في خاطره ومخيلته،،، رأيت فيما يرى النائم أن الغرب تشرق عليه شمس ساطعة، حذقت فيها طويلاً ثم أدرت وجهي نحو الشرق فخيل لي أنني أنقل شمساً أوسع مدى وأسطع نوراً إلى أرجاء الشرق الواسعة، وحسيت أنني أنا الذي أنقل هذه الشمس بيدي..)
وكشأن معظم أصحاب الرسالات في الحياة لم يترك جسده إلى عبث الراحة والدعة، بل باشر الحياة العملية من فوره، فنراه يلقي في مدينة (ليون) بتاريخ ۱۹۲۱/۱۰/۲۵ محاضرة عن الأدب العربي مقارنة بالأدب الفرنسي… وقد كان مغتبطاً لذلك حين قال: .. ولقد نجحت في إفهام هؤلاء القوم أن للعرب أدباً له قيمة.
ويكتب من باريس بتاریخ ۱۲ أغسطس ۱۹۲۲: إن العهد الذي أخذه على نفسي هو أن أكون قوي الأخلاق،
ومن لندن يكتب: شاهدت باريس ولندن.. ورأيت الإنجليز في بلادهم، ولا أستطيع أن أبدي حكماً صحيحاً عليهم إلا إذا عاشرتهم مدة أطول، واحتككت بهم احتكاكا أشد.
واذا كنا قد استطردنا في بعض من خواطر الرجل في سياق الولادة والنشأة فإن بوصلة القلم تتجه دائما نحو الشمال الجغرافي حيث المكانة في القلب، ونعود القرى السنهوري وقد حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة (ليون) سنة ۱۹۲۵، ثم الدكتوراة الثانية من نفس الجامعة في العلوم السياسية سنة ۱۹۲۹.
وكانت الأولى بعنوان: القيود الواردة على حرية العمل في القضاء الإنكليزي، والثانية بعنوان: فقه الخلافة.
ولدى عودته إلى مصر اختير ليكون قاضياً في المحاكم المختلطة، فمستشاراً مساعداً في محاكم قضايا الحكومة، فوكيلا لوزارة المعارف سنة 1939، فوكيلاً لوزارة العدل سنة ١٩٤٤، فوزيراً للمعارف سنة 1945، فوزيراً للدولة سنة 1946، فوزيراً للمعارف ثانية سنة 1946 حتى 1949 ثم عين رئيساً لمجلس الدولة وظل رئيساً له حتى سنة 1954.
وقد تتلمذ السنهوري على الفقيه القانوني الكبير “ادوار لامبير” Lambert ولابد من الإشارة إلى أنه قبل ذلك كان قد ندب للتدريس في كلية الحقوق بجامعة بغداد سنة 1934- 1935 حتى العام 1937 ليصبح بعدها عميداً لكلية الحقوق بالقاهرة سنة1937 وقد عمل في مهنة المحاماة فترة ثم دعي إلى العراق لإعداد القانون المدني العراقي ثم الإعداد للقانون المدني السوري بعد أن أقصي من رئاسة مجلس الدولة في مارس 1954 إذ تفرغ لإتمام كتابه الوسيط في شرح القانون المدني وللتدريس في معهد الدراسات العربية، ثم أصيب بمرض أقعده عن العمل وعن الحركة بمجرد انتهائه من وضع الجزء الأخير من كتابه الوسيط حيث وافته المنية بتاريخ ۷/۲۱/ ۱۹۷۱ وكان آخر سطر خطه بتاريخ ۱۹۹۹/۱۰/۱۱ الدعاء التالي:
(رب يسر لي عمل الخير، واجعل حياتي نموذجاً صالحاً لمن يحب بلده الأصغر وبلده الأكبر، ويحب الناس جميعاً…)
ثانياً: التكوين النفسي والعلمي / فترة الكمون
كان سقراط يكتشف الشخص في عبارته المشهورة: تكلم حتى أراك، لأن عمل المرء يدل عليه، ونزوعه نحو المجد والعطاء يضفيان عليه سهة خاصة، يقول السنهوري في هذه النزعة: “في كل إنسان خلق متأصل في نفسه، هو الذي يكون شخصيته، ويسود على أكثر الأعمال التي تصدر منه، ولا أظن أنه يمكن محو هذا الخلق إلا إذا محوت الشخص نفسه، ومن هذا الخلق يتفرع كل ما للإنسان من مزايا وما فيه من عيوب.
فقد كان السنهوري قمة خلقية لأنه أثبت أن رجولته الكريمة تستعصي على الإغراء بزخارف الحياة والثراء، فهو قمة إدارية لأنه زاول الأعمال الإدارية عميد، ووكيل وزارة عدة مرات فكان مثالاً رائعاً لمرؤسيه جميعاً…
كان يصل إلى مكتبه في عمادة كلية الحقوق بعد الفجر ويبقى حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ليعود في المساء ساعتين في اليوم نفسه لإتمام عمله، ولم يسجل له اعتذار واحد عن محاضرة… وكان يعني الفقراء من بعض المصروفات الجامعية.
وكان – رحمه الله – معتدل المزاج، هادي النفس، وقد هيأ له ذلك الصبر على الدراسة، وكان دؤوباً في العمل إذ إنه يقوم بواجب الوزارة عندما كان وزيراً، وكان يضع القانون المدني وهو عبء لتنوء به العصبة من أولي القوة، وكان يرأس مجلة القضاء الإداري ويشرف على أقسام التشريع والفتوى، ويحاضر في كلية الحقوق، ويشرف على معهد الدراسات العربية، ويساهم في أعمال مجمع اللغة العربية، ويضع قوانين الكويت ودستور السودان، وكان يعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، وقد تجاوز السبعين من عمره، وكان يرى القانون في كل شيء، ويرى في القانون كل شيء.
والسنهوري لم يجاوز محيط مصر إلى المشرق العربي؛ وإنما تخطى هذا إلى الصعيد الدولي فبرز نجماً لامعاً في سمائه الواسعة يستشهد كبار المؤلفين بأقواله، ويرجع أعلام المحامين إلى شروحه ونظرياته، فهو العالم الفذ، والحجة الثبت، والفقيه الذي لا يجاري في براعة المنطق، ومهارة الإقناع…
وقد قال أستاذه (ادوار الامبير) فيه ذلك كلاما صریحاً: “… إن السنهوري أثبت أنه يستطيع أن يكتب للجمهور الواسع العريض – وليس فقط للمتخصصين في علم القانون، أو الاجتماع التشريعي – لا أقصد أبناء وطنه فحسب، وإنما أقصد كذلك جمهور الأوربيين”
وكان كثير اللقاءات مع أستاذه (لامبير) عميد مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة، سواء في القاهرة أو في باريس أو ليون التي قفل لامبير راجعاً إليها ليؤسس معهد القانون المقارن، إذ كانا يتناقشان في كثير من المسائل القانونية، وكان الأستاذ معجب أشد الإعجاب بتلميذه، وينظر نموه القانوني الصحيح..
كان السنهوري عصامياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، ولا من فضة يطعم فيها، إنه مأمور بريد مغمور، ولكن قلبه الشجاع وضميره المستبسل وعزمه الصارم، ونفسه المتفتحة للمعرفة والطامحة للمجد هيأت له أن يبلغ هذا الشأو البعيد… من غير أن يشوب غرضه سوء أو يفسد طموحه أثرة، وهو لا يدع فرصة تمر من غير أن يبارك العصاميين أمثاله ممن أنجبتهم الطبقة الوسطى.
وكان الرجل في عمله يهتم بأدق التفصيلات، ولا يترك مسألة إلا بعد تصفيتها والوصول إلى نتيجة فيها، وكان لا ينتظر ثناء على ذلك أو شکر، فقد اعتذر في إحدى المرات عن قبول المكافأة السخية التي عرضتها الحكومة عليه وقتئذ نظير قيامه بوضع القانون المدني المصري .
وكان حلو الشمائل مهذب الطبع، رفيع الذوق، كيس العقل، عذب الحديث، هادئ الصوت، مشد اللفظ، حر الفكر، مستقل الرأي، قوي الضمير، يقول الحق ولا يؤثر على الحق شيئا، ويسلك إلى ما يريد طريقاً سوية لا تعرف عوجاً ولا أمتا… وهو متواضع وغال في التواضع مع من أحب، ومن أشد الناس وفاء للصديق… لذا لم تأته زعامة القانون هونا، ولم يسلك إليها سبيل التملق واهتبال الظروف وإنما انتزعها وأخذها كما تؤخذ الدنيا غلابا يجهد واصب، وجد متصل، وبراعة في التأليف، ومهارة في البحث والاستقصاء.
وكان يرمي – رحمه الله – من كتاباته بعض الأبحاث والمقالات بالفرنسية إلى تعريف الغرب بثراء الشرق والشريعة الإسلامية بما تحويه من مبادئ عظيمة لم يصل إليها القانون إلا حديثاً، وفي بعضها لم يصل بعد، وكان يردد أن استفادة تشريعنا من وحي الشريعة الإسلامية عمل يتفق مع تقاليدنا القومية، ويستقيم مع النظر القانوني الصحيح من أن القانون لا يخلق خلقا، بل ينمو ويتطور حاضره بماضيه، لذا دعا إلى قانون عربي موحد أساسه الفقه الإسلامي على أسلوب الفقه الغربي؛ فقد كان يطيل النظر في هذا الخصوص، ويقلب الأفكار على كل الوجوه حتى يصل إلى أعماقها حتى قال عنه صديقه الحميم سليمان حافظ أنه يقلق الشعرة بالطول.
وكان يصرح دائما بأن في الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صوغها لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي وفي الشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي تتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث، فهي لا تزال صالحة للتطبيق، ولا أقول هذا جزافا، وإنما أقدر تبعة ما أقول…
وكان من أهم مميزات شخصيته التخطيط للمستقبل، وقدرته الفائقة على الالتزام بالخطط التي رسمها، والعمل للأهداف التي فكر فيها، وصمم على العمل لها.
وكان إيمانه بالتخطيط أنه كان يحدد الغاية ويبين سبيلها، ويرسم مراحلها، ويقدر لكل مرحلة زمناً.. فكان قوي الإرادة يلتزم بهذا التخطيط لا يخلفه، حتى إن المرض لم يستطع أن يزحزحه عن المضي في سبيله، وبهذا استطاع أن ينجز ما عجز عنه عشرات من المجدين، وكان من أروع تخطيطه إخراج الوسيط بالمدة التي قدرها وبقيت من حياته، فما كاد ينتهي من إخراج الجزء العاشر منه ويعلم الخاصة أنه أنهى واجبه حتى غادر الدنيا إلى رحاب الله جل وعلا مرتاح النفس، لأنه أدى رسالته..
وكان يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدة الضعيف والفقير في المجتمع، وكان غير راض عن الاستقطاب الاجتماعي الحاد في بلاده، وكان يبحث بشكل مستمر عن الحدود الواقعية في المجتمع المصري لتجنب تحلله النهائي.
بقي أن نـقـول فـي صـدد نشأة وتكوين السنهوري أنه إذا كانت المصاعب لا تذلل إلا من قبل الأقوياء، فإن في حياة كل رجل عظيم من الأحداث والمصاعب والمواقف ما تجعله كالطود الشامخ، وهذا ما ينطبق على السنهوري من خلال مسيرة حياته العلمية أو العملية، وقراراته عندما كان قاضياً ورئيساً لمجلس الدولة المصري شاهدة على ذلك، ناهيك عن تعرضه للمحن في سبيل تأدية رسالته الخالدة، وما حادثة الاعتداء على شخصه بصفته رئيساً للمجلس إلا خير دليل على ذلك، والأحداث الكثيرة في حياته تدلل على صلابة مواقفه وثبات مبادئه، واذعانه للحق، فقد خالفته مرة – وهذا نادر – محكمة النقض في رأي ذكره في كتابه الوسيط عن حجية الحكم الابتدائي
القطعي إذا طعن فيه بالاستئناف… فرأت المحكمة أن حجية هذا الحكم مؤقتة، توقف منذ الاستئناف… وكان السنهوري يرى أن الحجية قائمة حتى يلغيها الاستثناف. فذهب إليه المستشار محمود توفيق إسماعيل (نائب رئيس محكمة النقض) وحاوره في ذلك… فقال له السنهوري بعد سماع حجته: رأيك هو الأصح، وإذا تهيأ لي اصدار طبعة ثانية من (الوسيط) فسوف أعيد النظر فيما كتبت..
خرج المستشار محمود إسماعيل ليقول: هذه عظمة العالم في أسمى صورها.
وعن تكوينه ودخوله معترك الحياة العملية التي تمهد لها التدخل عالم القانون الواقعي لا النظري، يقول في مذكراته: …
أورد بعض مذكراتي في مستهل دخولي ميدان الحياة من فشل أو نجاح، كنت معاون نيابة في مدينة المنصورة في سنة ۱۹۱۷، وعهد إلي للمرة الأولى بالمرافعة أمام محكمة الجنح الاستئنافية، وقد قيل لي وقت ذاك إن مهمتي لا تتجاوز أن أطلب التأييد أو التشديد أو الإلغاء في القضايا التي تعرض على المحكمة، ولكني – وكنت شابة في الثانية والعشرين – لم أقتنع بهذه المهمة المتواضعة، فأخذت قضية اتسع فيها المجال البحث فقهي انقسمت فيه الأراء بين مذهبين أحدهما فرنسي والآخر بلجيكي، وقمت أترافع، فسردت للمحكمة ما قاله أنصار كل من المذهبين في شيء من ارتباك من كان حديث عهد بالمدرسة، ونظر إلى رئيس المحكمة – وكان مشهورا بالمرح – في شيء من الدهشة إذ لم يتعود مثل هذه المرافعة الفقهية، ثم نظر إلى المتهم وكان فلاحاً ساذجاً وسأله: هل تختار النظرية الفرنسية، أو النظرية البلجيكية؟!!
فأغرق الحاضرون في الضحك وأحسست بالعرق باردا من شدة الخجل… وبعد ذلك بأسابيع قليلة ترافعت أمام محكمة الجنايات، وأنا لا أزال معاون نيابة في جناية قتل كان المحامي عن المتهم فيها المرحوم أحمد بك عبد اللطيف وهو من أشهر محاميي عصره، فكسبت القضية ووفقت فيها توفيقاً كبيراً، واستعضت عن مرارة الفشل في القضية السابقة بنشوة النجاح في هذه القضية.
ثالثاً- حياة الواقع والعمل، السفر إلى المعرفة (الطموح والقدرة )
إذا كانت الأسفار عند ابن عربي ثلاثة: سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهو القائل أيضا: من لم تكن له جهة كان وجهاً كلياً، فإننا نجد أن السنهوري باشا قد يمم وجهه في أسفاره شطر بلاد كثيرة يمتطي صهوة طموح عريض، أملاً أن ينهل من معين المعارف والعلوم القانونية ليضع منها شرابا خالصاً لأمته، فتراه حيث حل أكل طيباً ووضع طيبة كما النحل..
كانت شخصيته قبل سفره تتكون وتتشكل من ثوابت وثقة العارف ما يريد والمدرك – بكل جوارحه – أين يضع قدماً قبل أن يرفع الأخرى، استمع إليه وهو يناجي نفسه قائلاً:
أريد تقوية إرادتي، فهل أستطيع؟ سأرى !! ثم يعاود القول: «القوة هي كل شيء… ليس للضعيف إلا دواء واحد هو أن يتقوى!! وإن قوى ثلاث إذا اتحدت في الرجل أوجدت عنده ما يسمى بالذكاء المكتسب وهي: بعد النظر، وقوة الملاحظة، وسرعة الخاطر. فإن اتحدت فإذا به يجلس من الذكاء مجلساً يراه فيه كل الناس.
وكان يلاحقه هاجس ووحشة كلما فكر بأن لا يوجد له صديق، فتراه يبحث عن الحقيقة في أعماق الصدور، لا على أطراف الشفاه. وتضطرم المشاعر لديه قبل سفره فيعبر
عن ذلك مناجيا:
أصبحتُ لا أمن قلبي على عاطفة إن طال عهده بها…» إلا أنه يقبل على السفر مصرحاً: .. «لا أحب الحياة إلا لشيئين: المجد والعواطف.
رابعاً :السفر إلى فرنسا / ليون ١٢ أغسطس 1921
أبحرت السفينة (سفنكس) متجهة إلى (مرسيليا) لتحط به في (ليون) فتبدأ رحلة البحث عن المستقبل وتحقيق الأمال، وقد قرر الإقامة في كنف أسرة أثنى على لطفها بمعاملته…
وبقي في (ليون) على فترة من الزمن يجوس شوارعها ومعالمها الأثرية وأنديتها الثقافية بكل جوارحه لعل شعورا كان ينتابه بأنه سيفارقها يوما ما، فتراه يدون كل شاردة وواردة عن محيطه وعما يعتلج في صدره، ويكتب عن هموم وطنه، ويعقد مقارنة بين الشرق والغرب من خلال المكان الذي پرسو فيه، وكان بين الفينة والأخرى يتردد إلى كل من (باريس ولندن) فتراه يصف الإنكليز وطباعهم وعاداتهم، وقد أكثر من خواطره في (ليون) إلى حد استنفدت فيه معظم مذكراته.
سنوات عدة قضاها في ليون باحثاً ومنقباً لإعداد رسالتيه في الدكتوراة كما قلنا – ففي العام ۱۹۲۵ حصل على الدكتوراة الأولى من جامعتها بعنوان:
القيود الواردة على حرية العمل في القضاء الإنكليزي
– وفي العام التالي سنة ۱۹۲۹ حصل على الدكتوراة الثانية بعنوان:
فقه الخلافة،
وسنفرد لهاتين الرسالتين – مع سائر مؤلفاته – حيزاً خاصاً نتناول فيه مضمون كل مؤلف.
خامساً: العودة إلى مصر
بعد أن أنهى السنهوري دراسته في (ليون) قفل إلى مصر ليضع نفسه في الخدمة العامة إذ أختير – كما قلنا سابقا – (۷۷) قاضياً في المحاكم المختلطة، ومن ثم مستشارا لدى قضايا الحكومة، ومن ثم عميدا لكلية الحقوق بالقاهرة سنة ۱۹۳۹..
سادساً :السفر إلى بغداد
وفي العام ۱۹۳۹ انتدب السنهوري إلى بغداد ليتسنم منصب عميد كلية الحقوق فيها للسنة الدراسية ۱۹۳۰- ۱۹۳۹ فقام بتنظيم كلية الحقوق تنظيماً حديثاً؛ وقد عاونه بعض رجالات العراق في ذلك العهد منهم المرحوم ياسين الهاشمي والأستاذ محمد زكي والمرحوم منير القاضي والمرحوم الأستاذ رشيد عالي الكيلاني (وزير العدل) فوضع نظاما لكلية الحقوق برقم 8 لعام ۱۹۳۹.
وقد قام السنهوري بتدريس مادة أصول القانون، ومقارنة المجلة بالقانون المدني ثم أصدر مجلة القضاء على أسس جديدة وكتب:
«… وإذا كان العراق في الماضي مهدا القانون حمورابي، ومنارة لفقه أبي حنيفة، فهو اليوم يتقدم ومن ورائه تلك الذكريات المجيدة، وأمامه ذلك الهدف الأعلى، يطمح في أن يكون له مكانة في النهضة القانونية التي بدت تباشيرها في الشرق العربي ..
ثم طلب منه رشيد عالي الكيلاني وزير العدل آنذاك وضع مشروع القانون المدني العراقي فوضع مشروعاً لعقد البيع، ثم أخذ العشرة الأوائل في كلية الحقوق إلى مصر، وأدخلهم كلية الحقوق بالجامعة المصرية، صار بعضهم أساتذة القانون في جامعة بغداد وعاد إلى بغداد سنة 1943 فوضع القانون ر المدني العراقي بمعاونة بعض الأساتذة العراقيين.
سابعاً- السنهوري في دمشق وحقيقة وضع القانون المدني السوري
على أثر الخلاف الذي نشب بين الحكومتين المصرية والعراقية في شأن السنهوري، غادر السنهوري بغداد ليحط به الرحال في دمشق لإتمام مشروع القانون | المدني العراقي والعمل على وضع مشروع القانون المدني السوري، وفور وصوله كتب في مذكراته هذه السطور
…
أرجع إلى دمشق بعد أن طالت إقامتي في بغداد أكثر من ثلاثة شهور، وقد صار العمل الذي جئت من أجله ثابتاً راسخاً والحمد لله، لقد تحملت كثيرة من المشقة والنصب من أجل هذا العمل وأنا ثابت لا أتزعزع ولا أتراجع، وقد سدد الله خطاي وكتب لي التوفيق في هذا العمل الذي أرادوا ألا يتم، ويريد الله إلا أن يتمه.
وقد امتدت إقامته في دمشق حوالي ثمانية شهور، وهذا ظاهر من تاريخ المذكرات التي كتبها فيها، وهي غزيرة وعبارة عن خواطر في الحياة والاجتماع واللغة والأدب والقانون وقد كتب من دمشق بتاريخ ١٩٤٦/٨/١٢:
أتممت العام الحادي والخمسين من عـمـري بـالأمـس… والـيـوم استقبل العام الثاني والخمسين، وأنا الآن في مدينة دمشق أنجز عملاً وددت منذ ثلاث سنوات لو أنني أنجزته.. أضع قانوناً مدنياً لسورية، كما وضعت هذا القانون لمصر والعراق، وهكذا يحقق الله الأمل ولو تراخي الزمن.
أقام السنهوري في دمشق فترة من الزمن، واستقر في فندق (الأوريان بالاس – الشرق حالياً) ، وكان يلتقي كل من سعد الله الجابري رئيس مجلس الوزراء، والأستاذ ساطع الحصري، وكان – رحمه الله صاحب طرفة وخفيف الظل، ويعشق دمشق، وقد أحب المرحوم أبو درويش سويد (من وجوه دمشق آنذاك) وكان يبادله تعليقاته الشائقة ونكاته الحلوة، وكان يردد قصائد شوقي في دمشق ويطرب لها كثيراً، وأسر مرة لبعض صحبه أنه لو كان أمين عاصمة لدمشق لأقام فيها تمثالاً لشوقي، لأنه على كثرة ما قيل فيها لم يبلغ أحد في الأولين والآخرين شأوه في امتداحها. وكان يتردد أيضاً كثيراً إلى فندق أمية فيها.
ثامناً : الحياة القضائية والقانونية :
سبق وأن استعرضنا في النشأة والتكوين ما شغله السنهوري من مهام قانونية كوكيل للنيابة العامة، وقضايا الدولة وغير ذلك ما ورد في مكانه من هذا البحث، ناهيك عن دأبه المتواصل في التأليف القانوني والمحاضرات والتدريس في كليات الحقوق في كل من مصر وبغداد وغيرهما، كما درس بمدرسة القضاء الشرعي سنة ١٩٢٠، ومشاركته في وضع تقنينات عدة دول ولا ننسى أن المحاماة كانت | مثابة له، وهي أمل أفضى به إلى مذكراته في ليون بتاريخ ۱۰ ديسمبر ١٩٢٣ إذ قال: ولو تم لي أن اشتغل في الأعمال الحرة لاشتغلت بالصحافة والمحاماة .
بعد أن استعرضنا هذا الجانب سابقاً وسنرفده لاحقاً فيما هو من دواعي أفكار البحث نتناول حقبة زمنية هامة في حياة السنهوري وفي حياة مصر بل الوطن العربي في معظمه وهي تسنمه منصة القضاء ولاسيما رئاسته لمجلس الدولة المصري الذي ساهم في بنائه.
1- عمله في مجلس الدولة :
في العام 1949 تولى الدكتور السنهوري رئاسة مجلس الدولة المصري، فأقامه على قواعد وأسس متينة، ويعد هو واضع حجر الأساس الأول له، وتشهد له بذلك أحكامه القضائية المميزة وأبحاثه القانونية في هذا الشأن من حيث القوة ونصرة الحق، فقد كان يصدر أحكاماً قضائية بلغت القمة في شجاعتها ونزاهتها ودقتها في مراعاة القانون والصياغة القانونية، وعمقها في تطبيق روح القانون وهو الأصعب والأهم.
” كما أنه أسس لمجلة مجلس الدولة التي كانت منبراً للفقه القانوني الإداري والقضائي، .
وقد أرخ لذلك في أوراقه قائلاً: «اللهم تولني بهداك وتوفيقك في هذا العمل الجديد مذكراته الشخصية – صفحة ۲۵۰).
وقد أحدث من التنظيمات في مجلس الدولة ما جعله قادرا على النهوض بهذه الرسالة، فاستصدر القانون رقم 9 لعام 1949 القاضي بتعديل قانون مجلس الدولة، ثم أعد اللائحة الداخلية للمجلس، وأنشأ نظام المفوضين في القضاء الإداري، والمكتب الفني… وقد استن عدداً من السنن القانونية والقضائية في المجلس واختصاصاته مثل:
– حق القضاء في رقابة دستورية القوانين
– اعتبار تصرفات الإدارة في تعطيل الصحف والغائها عملاً من أعمال الإدارة لا من أعمال السيادة، ومن ثم اخضاعه لرقاية القضاء الإداري ليرى هل صدر متفقا مع أحكام الدستور والقوانين وخالية من التعسف فيحكم بصحته، أم صدر متعارضا مع هذه الأحكام أو منطوية على تعسف في استخدام السلطة فيحكم ببطلانه ومن عيون أقضيته نستعرض بعض الأحكام الهامة:
1- إذا كانت أعمال السيادة تختلط بعض تطبيقاتها بنظرية أعمال الضرورة، إلا أنه يجب التمييز بين النظريتين، فلأعمال السيادة نطاق غيرنطاق أعمال الضرورة، ولكل من النظريتين أركان تختلف عن أركان النظرية الأولى.
٢- إن الضرورة – وفقاً للقضاء العادي والإداري لا تقوم إلا بتوافر أركان أربعة :
1- أن يكون هناك خطر جسيم مفاجئ يهدد النظام والأمن.
٢- أن يكون عمل الضرورة الذي صدر من الإدارة هو الوسيلة الوحيدة لدفع هذا الخطر.
3- أن يكون هذا العمل لازماً حتماً، فلا يزيد على ما تقضي به الضرورة.
4- أن يقوم بهذا العمل الموظف المختص فيما يقوم به من أعمال وظيفته.
وهـذه الأركان جميعاً ترجع إلى أصلين معروفين يقضيان بأن الضرورات تبيح المحظورات، وإن الضرورة تقدر بقدرها، على أن الضرورة إذا عرض لها المشرع في بعض حالاتها فنظم أحكامها في هذه الحالات فلا يجوز للإدارة الخروج على هذه الأحكام.
وإن أعمال الضرورة تخضع في جميع الأحوال لرقابة القضاء ليرى ما إذا كانت أركـان الـضــرورة مـتـوافـرة حتى يـقـوم حق الضرورة وتنتفي المسؤولية، فإذا لم تتوافر هذه الأركان فليس هناك ضرورة، ويكون العمل الصادر من الإدارة في هذه الحالة موجباً للمسؤولية إذا كان عملاً مادياً، وباطلاً إذا كان قراراُ إدارياً.
٣- ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين من ناحية الشكل، ومن ناحية الموضوع على السواء، ولا ترى المحكمة فيما استندت إليه الحكومة من حجج القول بعدم جواز النظر في دستورية القوانين ما يجعلها تعدل عن قضائها السابق في هذه المسألة. وإن الدستور وحده هو الذي يملك أن يقرر مدى ما لكل سلطة من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية من الرقابة على كل من السلطتين الأخرتين، ومدى ما ينبسط عليها من ذاتها من الرقابة.
ومن الأصول الدستورية أن يطبق القضاء القانون فيما يعرض له من الأقضية، والقانون هنا هو كل قاعدة عامة مجردة أيا كان مصدرها، سواء أكان هذا المصدر نصة دستورية، أو تشريعا يقرره البرلمان، أو قرارا إدارية تنظيمية، وسواء أكان القرار الإداري التنظيمي مرسوما أو قرارا من مجلس الوزراء، أو قرارا وزاريا، أو أي قرار
إداري آخر… وإذا تعذر على القضاء تطبيق هذه التشريعات جميعاً لما قد يوجد بينها من تعارض وجب عليه أن يطبق القانون الأعلى مرتبة وأن يستبعد من دائرة التطبيق القانون الأدنى إذا تعارض مع القانون الأعلى.
وإن تطبيق الدستور دون القانون عند التعارض ليس معناه الحكم بإلغاء القانون، فهذا ما لا تملكه المحكمة إلا بنص صريح في الدستور، ولا تستطيع المحكمة من جهة أخرى أن تطبق القانون عند تعارضة مع الدستور فهذا ما لا تملك الترخيص فيه إلا برخصة دستورية صريحة، وكل ما تملكه المحكمة عند سكوت الدستور هو أن تمتنع عن تطبيق القانون غير الدستوري في القضية المعروضة عليها، وقضاؤها في هذا مقصور على هذه القضية بالذات دون أن تتقيد محكمة أخرى بهذا القضاء، بل دون أن تتقيد هي نفسها به في قضية أخرى تنظرها بعد ذلك.
4. إن سوء استعمال السلطة نوع من سوء استعمال الحق، والموظف يسيء استعمال سلطته كلما استعمل نصوص القانون ونفذها بقصد الخروج على القانون وأهدافه، فهو استعمال للقانون بقصد الخروج على القانون،
وبهذه المثابة تكون إساءة استعمال السلطة ضربا من تعهد مخالفة القانون مع التظاهر باحترامه، فهي لا تخرج عن كونها مخالفة متعمدة الأهداف القانون، بل وللقانون ذاته لتعذر التفرقة بين نصوص القانون وأهدافه.
5. إن المعاش التقاعدي ليس منحة تعطى للموظف أو لورثته، وإنما هو حق مقرر بالقانون، وعلى هذا النظر لا يسوغ الحرمان منه إلا في الأحوال الواردة بالقانون وعلى مقتضى الشروط المبينة فيه، وأن يكون استيفاء هذه الشروط أكيداً، يقينيتً لا ظنياً ولا تخمينياً..
2- الصناعة التشريعية
للسنهوري آراء في أصول وصوغ التشريعات، فالصياغة عنصر أساسي تكسب القانون ذاتيته، فيجب لصوغ أي تشريع أن يعهد به إلى لجنة قليلة العدد يراعى في تشكيلها عنصران: الأول فني، والأخر عملي.
أما الفني فعماده الفنيون المشتغلون بالقانون فقها وعملا، كأساتذة القانون والمحامين والقضاة، والعملي يختار من العناصر الممثلة النشاط البلد الاقتصادي فيبدون آراءهم في الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها التقنين، ويساعد اللجنة أفراد يجمعون المعلومات ويرتبونها، كما أن اللجنة بحاجة إلى الإحاطة بالتشريعات الأجنبية لأن القانون المقارن يمثل التقدم العلمي للقانون والتشريع، يضاف إلى ذلك أن يكون التقنين متمشياً مع روح العصر الذي نعيش، ومتققا مع حاجات البلد، وأن يكون مبوبا، وأن يكون منطقياً متماسكاً ليسهل فهمه والإحاطة به، وإن التقنين الصالح يمتاز بشيئين أولهما: يتغلب الروح العملية فيه على الروح الفقهية ليكون في متناول الجميع، أما الأخر هو ألا يحاول التقنين الإحاطة بكل شيء، لأن ذلك يعد عقيماً، ولأن المقنن لا يستطيع مهما أتي من علم ودراية وبصيرة أن يتنبأ بكل أمر ليضع له الحكم الذي يقتضيه.
وقد أسهب السنهوري في وضع ضوابط الصناع التشريع، وابتكر نظرية ( الهندسة الاجتماعية)
وفي بحثه المميز والهام الذي عنونه ب على أي أساس يكون تنقيح القانون المدني يتحدث السنهوري في هذا البحث المطول عن موضوع التقنين المدني، وكيف يجب أن تكون مزاياه، ومصادره، وأسسه، ومدى شموله، وفي ذلك يقول:
… نريد تقنيناً كاملاً، فلا معنى لشطر القانون شطرين بين معاملات وأحوال شخصية، فالتقنين الجديد يجب أن يكون شاملاً لكل المسائل التي يحتويها القانون المدني الكامل، ولا نقصد بهذا أن ننقل تشريع الأحوال الشخصية من التشريعات الغربية بل يجب أن يكون تشريعنا في هذه المسائل منقولا من الشريعة الإسلامية مع جعله ملائما لأن يطبق على غير المسلمين من المصريين، فيكون لنا بذلك تشريع عام للأحوال الشخصية يخضع له جميع المصريين مع احترام العقائد.
فنحن إذن لا نريد بإدماج الأحوال الشخصية في القانون المدني أن ننتقص من سلطان الشريعة الإسلامية، بل على العكس من ذلك، نود لو امتد هذا السلطان إلى دائرة المعاملات نفسها، ولكنا نريد أن نحصل على مزية التقنين في جميع تشريعنا المدني..
، وإذا فرغنا من تقرير ذلك تنتقل إلى بيان الأسس والمصادر التي يبنى عليها التنقيح المرجو من حيث الشكل ومن حيث الموضوع، فتبين أولا ما يحسن اتباعه من | الإجراءات للقيام بهذا التنقيح، وعلى أي أسلوب تشريعي يكون، ثم تبين بعد ذلك ما تجب مراعاته عند النظر في التنقيح موضوعا، ومن أي المصادر القانونية نستمد ما نريد إدخاله من التعديلات على تشريعنا الحاضر، فالـقـانـون لا يحصر نفسه في صفحات كتاب أو مجموعة من المقالات.
ومضت الدراسات وأسهم السنهوري بنصيب وافر في الإعداد للقانون المدني الجديد، واحتفظ بأحكام القانون الفرنسي، وأشرك معه القانون المقارن الذي احتوى على أحدث التطورات القانونية العالمية، واعتمد على أحكام القضاء المصري لأنها خير معبر عن حاجات المجتمع واستند أيضاً على الشريعة الإسلامية، وصدر القانون المدني عام 1948، وقد بعد عن التعقيد والغموض، وأصلح عيوباً، وسد النقص في كثير من الـقـواعـد… واتسم بالتوسط في مذهبه الاقتصادي والاجتماعي حيث جارى نزعات العصر، كما أنه ترك للقاضي حرية واسعة التقدير يواجه بها تباين الظروف فيما
يعرض عليه من قضايا..
ونجح السنهوري في كفاحه الطويل وعمله الدؤوب والمضني ليضع نظرية أصول التقنين والصناعة القانونية في التداول القانوني السليم، وفي متناول من يتلمسون سبل السلامة.
ونقول في هذا الشأن يجب لفهم القانون من فهم الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية له – وهو ما سار عليه السنهوري – والتي تتجاوز الجانب القانوني، وقد أدرك ذلك السنهوري وعمل عليه وأطلق على ذلك تسمية الناحية الخارجية للقانون، فالتقنين أو الصياغة التشريعية، وبالأدق فن التشريع عملية فنية لها رجالها وقواعدها ومبادئها وضوابطها التي يلزم اتباعها… وهي ليست مجرد موائد مستديرة توضع عليها أطباق منوعة ينتقى منها ما تميل إليه النفس من لذة أو ما سهل التقاطه، فالتقنين يجب أن يحاكي الواقع الاجتماعي ويتفاعل معه كي يسيران جنباً إلى جنب لتحقيق التوازن بين مصالح الناس ومصلحة القانون.. فنظرية المدرسة الاجتماعية للقانون – بصفة عامة – ترفض فكرة انفصال القانون أو انعزاله عن الواقع المعاش، فهو وسيلة من عدة وسائل لانضباط المجتمع، فالاهتمام بالمصلحة الاجتماعية العامة يستتبع الاهتمام بمصالح الفرد، وليس العكس.
دمشق – خريف العام ۲۰۲۱ – بقلم المحامي مازن النهار هيئة التحرير – مجلة المحامون السورية – الجزء الثاني لعام 2021 – ص 49 ومابعدها
التعليقات مغلقة.