القاعدة العامة المقررة في التقنينات المدنية الحديثة أن كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم مرتكبة بالتعويض (م 164 مدني سوري)، وتطبيق هذه القاعدة بإطلاق على القضاة، وعدم منحهم حصانة ما بصدد عملهم المهني يجعلهم تحت تهديد الخصوم کلما أشعروا بأنهم ضحايا الأخطاء القضاة، فإنه لن يشعر القاضي بالاستقلال في قراره، وسيحجم عن العمل خوفا من المسؤولية وبالتالي يتعطل مرفق العدالة.
وفي الوقت ذاته لا يجوز منحهم حصانة مطلقة ضد المسؤولية عن أخطائهم المهنية تجاه الخصوم، لأنهم بشر ويعتريهم ما يعتري البشر من أوجه الضعف.
ولذلك تتجه الأنظمة القانونية الحديثة إلى رسم خصومة بإجراءات وأحكام خاصة لتقرير مسؤولية القضاة المدنية، تتضمن استثناء من حكم القاعدة العامة في المسؤولية المدنية، فلا تجوز مساءلتهم مدنية عن أخطائهم في أداء وظيفتهم إلا وفق إجراءات دعوى المخاصمة،
ولا تجوز مساءلتهم وفق طرق التعويض العادية سواء أكان القضاة على رأس عملهم أم في حالة انقطاع مؤقت قصير كإجازة إدارية أو صحية أو من دون راتب، أو لأداء خدمة العلم، أو طويل كالإحالة على الاستيداع أو الندب، أو في حالة انقطاع دائم كالاستقالة أو التسريح أو الإحالة على التقاعد أو الطرد أو العزل كعقوبة مسلكية.
-
دعوى المخاصمة طريق استثنائي للطعن بالحكم:
يتجه رأي إلى عد دعوى المخاصمة طريقة للطعن غير عادي، يفترض أن القاضي قد خالف واجبه الوظيفي، وهذا الرأي هو الذي اعتمده المشرع الفرنسي عندما نظم المخاصمة في المواد (505 إلى 516 مرافعات)، ولكنه اتجاه محل نظر، لأن المخاصمة لا ترمي إلى الطعن في الحكم، وإنما إلى تعويض الخصم عن خطأ القاضي، فهي دعوى مسؤولية، وفارق بين الأمرين، وهي إذا أدت إلى بطلان الحكم الذي انبنى عليه سبب من أسباب المخاصمة، فإن هذا البطلان يكون بوصفه تعويضأ عينية للخصم عن الضرر الذي أصابه من صدور الحكم.
واذا حدث ورفعت دعوى جزائية ضد القاضي، فحسب الرأي الراجح لا يمكن رفع دعوى المسؤولية المدنية للقاضي عن عمله المهني تبعا للدعوى الجزائية أمام المحكمة الجزائية، وأنه يجب اتباع القواعد الخاصة بدعوى المخاصمة، وذلك أن اتباع القواعد العامة يعد خروجا على الحكمة من تنظيم المخاصمة، كطريق خاص أحاطه القانون بضمانات متعددة لصالح القاضي، يؤيد هذا أن دعوى المخاصمة تنظر على مرحلتين، وهو ما لا يتأتى عند نظر الدعوى المدنية أمام المحكمة الجزائية، في حين أن تنظيم إجراءات المخاصمة على ذلك النحو يعد ضمانة مهمة اللقضاة لا يجب حرمانهم منها بغير نص خاص .
۲. دعوى المخاصمة: دعوى مسؤولية تقصيرية:
اتجه مذهب أخر إلى أن المخاصمة دعوى تعويض مبنية على قواعد المسؤولية التقصيرية بأركانها الثلاثة: الخطأ والضرر وصلة السببية بينهما، وليست من طرق الطعن ولا امتداداً للخصومة”.
وهذا التأصيل يتفق مع صياغة المشرع السوري لإجراءات مخاصمة القضاة في الكتاب الثالث تحت عنوان خصومات متنوعة ولم يتناولها في الكتاب المخصص لطرق الطعن بالأحكام .
٣. خطأ القاضي المخاصم ليس مرفقياً:
يلاحظ أن مسؤولية القاضي المدنية هنا هي مسؤولية شخصية تقع على عاتقه في مواجهة الخصوم الذين لهم وحدهم صفة في هذه الدعوى، وتقوم على إخلاله بواجباته الوظيفية التي يتحملها بوصفه موظفا عاما في مواجهة الدولة، فالأساس القانوني لمسؤولية القاضي في مواجهة الخصوم لا يختلف عن أساس مسؤولية أي موظف عام عن عمله.
ولا يعني ذلك أن خطأه يعد مرفقياً تسأل عنه الدولة، فالقاضي هو المسؤول، لأن فرقاً بين القاضي وأي موظف عام إذ إنه يتمتع بالاستقلال في عمله، وإحلال مسؤولية الدولة محل مسؤوليته الشخصية يؤدي إلى عدم اهتمامه بعمله وعدم شعوره بمسؤوليته الشخصية عنه، ومن ناحية أخرى فالقاضي هو عضو الدولة ما دام يعمل لتحقيق وظيفته في إطار الهدف من الوظيفة، فإن خرج عنها لتحقيق أهداف خاصة به، فعمله لا يعد صادرة من الدولة، وإنما يعد عملا شخصية تقع عليه مسؤوليته.
وإن كانت الدولة من خلال وزارة العدل تتحمل المسؤولية بوصفها متبوعة يسأل عن أعمال تابعه لوجود الصلة القانونية اللازمة لقيام مسؤولية المتبوع بين خطأ القاضي ووظيفته التي يؤديها، فقد نصت المادة (467 أصول محاكمات) على أن “الدولة مسؤولة عما يحكم به من التعويض على القاضي أو ممثل النيابة بسبب هذه الأفعال ولها حق الرجوع عليه”.
ويمكن القول في تحديد الطبيعة القانونية لدعوى المخاصمة وأساسها القانوني إنها ذات طبيعة خاصة، حوت في تنظيمها شروط وأحكام كل من دعوى المسؤولية المدنية وطرق الطعن الاستثنائية، وقد حدد لها المشرع إجراءات خاصة، وتعرض على المحكمة على وضع يخالف الأوضاع العادية في نظر القضايا الأخرى والفصل فيها وإن غلب على أحكامها وشروطها أحكام وشروط طرق الطعن الاستثنائية – كما سنرى – اللهم إلا فيما يخص حكمها وهو التعويض.
شرح وملخص مخاصمة القضاة في القانون السوري pdf